إفطار «الوحدة الوطنية» يجمع مسلمين ومسيحيين على طاولة رمضان في مصر

يقيمه أقباط ويطلقون عليه موائد «العيش والملح»

إفطار الوحدة الوطنية عام 2005
TT

تتسع مظاهر المحبة والتسامح والتراحم بين المصريين في شهر رمضان، ومن أبرز هذه المظاهر موائد الإفطار الجماعي التي يقيمها الأقباط، احتفاء منهم بالشهر الفضيل وبإخوانهم وأصدقائهم المسلمين.. فالكل على المائدة الرمضانية نسيج واحد، المسلم والمسيحي جنبا إلى جنب. في عرس اجتماعي رائع، يؤكد الصيام كفريضة مشتركة وفكرة مقدّسة، خاصة أن شهر رمضان هذا العام يأتي متزامنا مع صيام العذراء للأقباط.

في ظلال هذا المشهد الإنساني النبيل يحرص الكثير من رجال الأعمال الأقباط في مصر على إقامة حفلات الإفطار طوال الشهر الكريم، بالإضافة للمؤسسات والمراكز الدينية المسيحية التي تواظب على إقامة حفلات إفطار تدعو فيها الشخصيات العامة والصحافيين ورجال الفكر، وكذلك الكنيسة القبطية نفسها التي تقيم سنويا ما يعرف بـ«مائدة الوحدة الوطنية» التي يحضرها شيخ الأزهر ورئيس البرلمان والوزراء وكبار رجال الدولة ورؤساء الأحزاب.

وإيمانا بدور الشباب في الحفاظ على الوحدة الوطنية للمصريين أقامت جمعيات الشباب المسلمين والشباب القبطي حفل إفطار جماعي، أكد خلاله الأنبا بسنتي أسقف مدينة حلوان أن هذا الحفل يعبر عن حقيقة الشعب المصري، بدليل أنه يضم كل فئات وطوائف المجتمع من سياسيين وإعلاميين ورجال دين مسلمين ومسيحيين ومنظمات المجتمع المدني.

كما أكد المستشار أحمد الفضالي، الرئيس العام لجمعيات الشباب المسلمين، أن هذا الحفل يؤكد على تلاحم عنصري الأمة من المسلمين والمسيحيين. وأضاف أن حضور هذا العدد الكبير، الذي زاد على ألف شخص، يعبر عن أهمية الدور الذي تقوم به جمعيات الشباب المسلمين والأقباط في غرس مبادئ الدين القائمة على الوسطية والاعتدال، ونبذ العنف، والقضاء على الفتنة الطائفية.

كما أقام القمص صليب متى ساويرس، كاهن كنيسة «مار جرجس الجيوشي»، عضو المجلس الملي العام (رئيس جمعية السلام القبطية في شبرا)، مائدة إفطار «الوحدة الوطنية» في موعدها السنوي، التي تضمنت حضور عدد كبير من القيادات المسيحية والإسلامية.

أكد ساويرس أن مائدة إفطار الوحدة الوطنية تلك هي رقم 42 في تاريخ الكنيسة، وتعد عادة سنوية مهمة تقيمها كل الكنائس القبطية بمصر والمهجر، مشيرا إلى أن الوحدة الوطنية هي المظلة القوية التي تجمع المسيحيين والمسلمين معا تحت سماء مصر، وهو ما اتفق عليه معه الشيخ محمد قطب، رئيس الجمعية الشرعية في شبرا.

وأشار ساويرس في لفتة طريفة إلى أن الكلمات الرمضانية التي يرددها المصريون مثل: «وحوي يا وحوي» و«حالو يا حالو» هي كلمات قبطية وفرعونية، وأوضح أن معنى كلمة «وحوي» هو اقتربوا، ومعنى كلمة «إيوحا» هو الهلال.. أي معنى الجملة «اقتربوا لرؤية الهلال».

أما كلمة «حالو يا حالو»، فتعني «يا شيخ افرح»، مضيفا أن الصيام فريضة مشتركة بين المسلمين والأقباط، كفريضتي الصلاة والصدقة.

وأكّد ساويرس أن كثيرا من المسلمين يصومون صوم العذراء التي ذُكِرت في القرآن الكريم مرات كثيرة، ولها سورة تحمل اسم «مريم». وقال إن المسحراتي كان يُنادي على الأقباط كما ينادي على المسلمين فيما مضى، وقد اعترض القمص على تسمية موائد «الوحدة الوطنية» بهذا الاسم، مقترحا أن يطلق عليها اسم موائد «العيش والملح».

وكما شارك المسيحيون في موائد الإفطار مع المسلمين، شارك المسلمون في احتفال إخوانهم المسيحيين بمولد السيدة مريم العذراء (أم النور)، حيث شارك المسلمون، خاصة السيدات والفتيات، بإيقاد الشموع والتبرعات.. كما شاركوا الباعة المسيحيين في الاحتفال ببيع الأيقونات المسيحية والسلاسل التي تحمل صور السيدة العذراء.

وعلى الرغم من وجود الموائد القبطية الرمضانية في معظم أحياء القاهرة، فإن بدايتها في مصر كانت في حي شبرا، وتحديدا عام 1969، حين أقام القمص صليب متى ساويرس راعى كنيسة مار جرجس مائدة إفطار للمسلمين والمسيحيين في شهر رمضان بميدان الأفضل في شبرا، وكان الهدف منها كما قال ساويرس وقتها أن يتحول الرباط بين المسلمين والأقباط إلى ما يعرف عند المصريين برباط «العيش والملح»، فهو أقوى من كل شيء، حتى العلاقات التاريخية.

لكن للأسف اتخذت هذه المائدة مع الوقت طابعا رسميا، حيث خلت تقريبا من عامة الشعب، واقتصرت على كبار المشايخ والقساوسة ورجال الإعلام والفكر.. وهو ما أدى لظهور موائد أخرى أخذت الطابع الشعبي فقط، وأخرى جمعت بين الشكلين.

وتعتبر مائدة ميلاد تادرس إحدى أبرز الموائد القبطية الشعبية، ومقرها حي جسر السويس (شرق القاهرة)، وتقام بجوار ورشة السمكرة التي يملكها ميلاد. وتتخذ المائدة من الورشة مطبخا لها، حيث تُكرس تماما لهذا الغرض، ويصر صاحب المائدة على أن يطهو الطعام لروادها بنفسه.

وفي منطقة الخلفاوي بحي شبرا توجد مائدة أخرى لا يقيمها قبطي، ولكن روادها من الأقباط والمسلمين، هكذا أكد صاحبها الحاج رأفت عبد المنعم قائلا: «يلتف حول المائدة عمال المصانع من المسلمين والمسيحيين»، مشيرا إلى أن معظم العمال المسيحيين يرفضون تناول الطعام طوال اليوم، احتراما لمشاعر زملائهم من المسلمين، وعند أذان المغرب يتشارك الجميع في الوجبة الواحدة ويصر العمال المسلمون على اصطحاب زملائهم المسيحيين ليتناولوا الإفطار معا.

وفي مقابل الموائد الرسمية والشعبية، ظهرت مائدة «المائدة» التي تقيمها جمعية ثمرة المحبة القبطية بشبرا، وتجمع بين الطابعين الرسمي والشعبي، إذ يحضرها المواطنون جنبا إلى جنب مع رجال الدين والمسؤولين.

ولم تقتصر موائد هذا النوع على محافظة القاهرة فقط، بل ظهرت بمدينة قليوب القريبة منها، حيث يخصص أهالي المدينة يوما للإفطار الجماعي بكنيسة «بيت أيل» أقدم كنائس البروتستانت في مصر. وتشترك أكبر العائلات المسيحية في إعداد طعام هذه المائدة، وهو ما يؤكده هاني موريس المدير العام للكنيسة، الذي أضاف أنها تجتذب الكثير من أبناء قليوب، سواء كانوا مسؤولين أو مواطنين عاديين، وهي جزء من نشاط خيري تقوم به الكنيسة البروتستانتية منذ نشأتها عام 1880 في قليوب.

ولا يرى ماهر حلمي، رئيس جمعية ثمرة المحبة القبطية، فرقا بين الأنواع المختلفة لموائد الأقباط، لأن الموائد القبطية تعكس جزءا كبيرا من طبيعة الشعب المصري الحريص على نسيجه الواحد، كما أنها، في رأيه، فرصة لاستمرار تشابك والتحام عنصري الأمة، البسطاء والعامة الذين ما زالوا يعيشون مع بعضهم بعضا في شكل رائع، فهم جيران وأصدقاء وإخوة دون تفرقة، فهذه الموائد دعوة للأجيال القادمة كي يحافظوا على هذا البلد كما حافظ عليها أجدادهم وآباؤهم، وعاشوا معا دون تفرقة بين مسلم ومسيحي.