الأعياد في الإسلام.. دعوة للمصالحة مع الحياة

TT

ما كان تشريع الأعياد في الإسلام أمرا خارجا عن إطار الشريعة الإسلامية السمحاء؛ وإنما يقع في القلب من منظومة هذا التشريع الإلهي الذي يأخذ بعين الاعتبار حاجة النفس البشرية إلى الفرح والسرور والابتهاج، خاصة بعد بذل المزيد من الجهد والمشاق. وآية ذلك؛ ارتباط عيدي الفطر والأضحى المباركين بشعيرتين عظيمتين في الإسلام لكل واحدة منها جلالها الخطير في الروحانيات، وخطرها الجليل في الاجتماعيات، وريحها الهابة بالخير والإحسان، وأثرها العميق في التربية الروحية للفرد والجماعة في آن؛ ألا وهما: الصوم والحج.

ففي الصوم من تحمل آلام الجوع والعطش ما يزيد من المشقة والعناء، ومن ثم كان جزاء الصائمين من جنس جزاء الصابرين الذين يوفون أجرهم بغير حساب. أما الحج؛ فجهاد لا قتال فيه؛ حيث صح عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها - أنها سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم: هل على النساء من جهاد؟! فأجاب، عليه الصلاة والسلام: «عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة». وإنْ دل هذا الارتباط على شيء؛ فإنما يدل على عِظم شأن العيد من جهة - حيث يعد بمثابة «مسك الختام» لهاتين الشعيرتين العظيمتين - وبوصفه تعبيرا عن شكر العبد لربه على جميل نعمائه من جهة أخرى.

وفي مقدمة تلك النعم: تقوية المولى عبده الضعيف لإتمام هاتين الشعيرتين على أكمل وجه انتظارا لثواب آجل عبّر عنه الحديث الشريف: «مَن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»، كما عبرت عنه الآية الكريمة: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين). لكن على الرغم مما للأعياد في الإسلام من مكانة عظيمة، فإن كثيرا من المسلمين اليوم قد جردوها من صبغتها الدينية، وعطلوها من معانيها الروحية السامية، بحيث لم تعد تفيض - كما في سابق عهدها - على النفوس بالبهجة، وعلى القلوب بالرحمة، وعلى الأبدان بالطمأنينة والسكينة والمغفرة، وهو ما يفسر استقبال البعض لها بحس بليد، وهمم فاترة! والواقع، أن أهمية الأعياد في الإسلام لا تقتصر على ارتباطها بشعيرة دينية مهمة وإنما تتعدى هذا السبب إلى أسباب أخرى تتعلق بتجليات الأعياد على كل من: المستوى النفسي/الفردي، والاجتماعي/الإنساني. ففي ما يتعلق بالمستوى النفسي؛ يعد العيد بمثابة الحد الفاصل ما بين تقييد تخضع له النفس، وتسكن إليه الجوارح، وبين انطلاقة أو انفراجة كبرى تتنبه فيها الشهوات بحيث تقف للمرء بالمرصاد! ولعل ذلك هو المقصود بحديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، الذي أخبر فيه أن الشياطين تصفد في رمضان، حيث يمكن صرف هذا القول إلى معناه المجازي والتسليم بأن مقصوده بلفظة «الشياطين» في هذا الحديث يمكن صرفها إلى «الشهوات» التي تُذَلُ وتنكسر بجهاد المؤمن وبصيام الجوارح عن الآثام كافة.

ومما يقوي رأينا هذا، ما نشاهده من معاصٍ يأتيها الخلق على رؤوس الأشهاد في رمضان، بحيث لا يستقيم وقوعها مع المعنى الظاهري للحديث، مما يوجب تأويل لفظه وصرفه عن معناه الظاهري. أما بالنسبة للعيد في بعده الاجتماعي الإنساني؛ فأمر تسهل ملاحظته بقوة ضمن تضاعيف منظومة الأوامر والنواهي الإلهية المختصة بأيام العيد، والتي تشكل آداب الأعياد في الإسلام خاصة تشريع صدقة الفطر في العيد الأصغر، وسَن نحر الأضاحي في العيد الأكبر.

وبذلك، يمكننا أن نتفهم حديث رسولنا الكريم الذي يأمر فيه بتعجيل إخراج صدقة الفطر، تأكيدا منه على أن الأعياد لم تشرع من أجل الفرح المجرد فحسب؛ وإنما شرعت لكي تستكمل حلقة البر في المجتمع الإسلامي. فإذا كان البر عادة فردية في الأيام العادية، فإنه يصبح في أيام الأعياد قضية اجتماعية تطبيقا لقول النبي، عليه الصلاة والسلام، مطالبا الأغنياء بألا يتركوا الفقراء لفقرهم في هذا اليوم: «أغنوهم عن ذل السؤال في هذا اليوم». والأمر ذاته ملاحظ في ما يتعلق بتقسيم الأضحية إلى ثلاثة أقسام، إذ لم تسن في الإسلام حتى يهنأ أصحابها بلحومها، وإنما ليشبع المحتاجون والفقراء.

والحال؛ أننا بذلك نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة حينما نعيش للآخرين، فبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين نضاعف إحساسنا بحياتنا ونضاعف هذه الحياة ذاتها في نهاية المطاف. ففي يوم العيد بالذات، يفرح الجميع من دون استثناء: الأطفال الصغار بهداياهم ومرحهم، والفقراء بسعة مداخيلهم، والأرحام بوصال يجمع في ما بينهم، والأصدقاء بلقاء الأحبة بعد طول ترقب وانتظار، والمسلمون بتزاورهم، والمتخاصمون بتصالحهم...إلخ. كما لو أن العيد يعد بمثابة مختبر حقيقي للتربية والأخلاق، حيث يفرض علينا النبل والفضل أن نتزاور بقدر ما نستطيع، وأن نتصافح بقدر ما نريد، وأن نسمو بقدر ما نشاء.

يتحصل مما سبق؛ أن الأعياد في الإسلام قد شُرعت لتكون أولا فرصة للترويج عن النفس من هموم الحياة، ولتكون ثانيا فرصة لتوطيد العلاقات الاجتماعية ونشر روح المحبة والمودة والتكافل والمساواة، ولتكون ثالثا - وقبل هذا وذاك - شكرا لله على تمام نعمته وعظيم فضله وتوفيقه لنا بإتمام الشعائر والعبادات. ومع أن العيد دعوة للفرح والسرور، فإن البعض يصر على إفساد هذه البهجة تارة عن طريق الإسراف في اللهو والمعاصي، وتارة أخرى عن طريق تذكر الأحزان وزيارة الأموات ولبس ثياب الحداد! إذ لم نعد نتلمس تلك العذوبة التي كنا نستشعرها وقت أن كنا صغارا، فلا نجد منها إلا ظلا خافتا أو خيالات كاذبة، وكأنما تغيرت الأعياد! بحيث بقيت منها الأسماء وغابت عنها السمات والصفات! كان العيد في ماضينا فرحة بفوز الفكرة العابدة فأصبح في حاضرنا تجاوزا للفكرة العابثة! وكانت كل حركة في الأعياد، وكل فكر وكل تصور - بل كل كلمة أو حديث أو تصرف - يبعث شريطا زمنيا من أشرطة الماضي، بحيث يحيا ويحيط بكياننا الذي قارب الزوال وأوشك على الفناء، كما كان يملأ أفقنا ويهب – حسب درجة وسعة خيال كل منا - أنموذجا للبعث بعد الموت؛ فإذا به يعيد تجسيد الموت من جديد! وكما لاحظ الأستاذ فتح الله كولن بحق؛ فإن «بهجة الأعياد وفرحتها وسعادتها ولذتها لا تنبع فقط من هذه الحياة المعيشة، بل من أبعاد الحياة التي سوف نحياها في دار العقبى. فكل مَن يعيش في خيال البرج العاجي لقلبه، يلقاه هناك سحر سيحسه وسيذوقه في المستقبل إلى جانب ما ذاقه اليوم. والإنسان في الحقيقة مجبول على التطلع والانتظار، يقضي معظم عمره في انتظار عوالم الأمل وأخيلته. ومعظمنا في انتظار جنة مرتبطة بمعنى لصيق بماهيتنا وذاتنا. وليس هذا الانتظار نابعا عن عدم استحساننا أو عدم قبولنا ورضانا عن الحياة التي نعيشها، بل انتظار لمفاجآت إلهية لا تستوعبها خيالاتنا كبَشَر، ولا خطرت ببالنا، ولا على أسماعنا، ولم نذقها. والأعياد ألسِنةٌ بليغة تهمس بصواب هذا الأمر من منافذ قلوبنا إلى أعماق أرواحنا».

* كاتب مصري