شهر القرآن (30) (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض)

د. عائض القرني

TT

هذا أصدق مدح لربنا جلّ في علاه، فالله نور هذا العالم، فكل نور يشع فمن نوره جلّ في علاه، فالقلوب في ظلمة حتى يصلها نور توحيده، والبصائر معتمة حتى يطلع عليها نور هدايته، والعالَم في دياجير الظلم حتى يشرق عليها نور ربها، فالنفس النيرة إنما استنارت بنور الله لما عرفت شرعه وأبصرت هداه، والعقل النير إنما فتح عليه لما أصابه حظه من نور الله، والكلمة السديدة إنما حسنت وجملت لما أضاءت بنور ربها، والفعل الحسن الراشد إنما صلح لأن الله وهبه من نوره، والمجتمع المستنير إنما استقام أمره لما أدركه نور من نور ربه، فكل نور في العقول والنفوس والأفئدة فمن الملك الحق، فبنوره أشرقت السماء والأرض، وصلح أمر الدنيا والآخرة، واستقام الحال، وطاب المآل، وكتبه سبحانه نور يبصر بها العمي، ويهدى بها من الضلال، ويرشد بها أهل الغي، ورسله نور يبعثهم بالحق فينقذون بإذنه من الهلاك، ويردعون من الردى، وينجون من المعاطب، وصراطه المستقيم نور به يهتدي المهتدون، وعليه يسير العابدون، وفيه يسلك الصادقون، ومن أهل العلم من قال في قوله تعالى: (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض) قال: منورهما يعني الشمس والقمر والكواكب، ولا تعارض، فكل نور معنوي، أو ظاهر أو باطن فمن لدن الحكيم الخبير جلّ في علاه.

فليطلب النور من عند الله فإن كل أرض لا يشرق عليها نوره فهي أرض ملعونة، وكل قلب لا يبصر نوره فهو قلب غاوٍ، وكل نفس لم تهتد بهداه فهي نفس خاوية، العالم إذا لم يهبه الله من نوره صار عالم سوء، وصاحب زور، وحامل بهتان، والحاكم الذي حرمه الله نوره غادر جبار، غشوم ظلوم، وكل عبد حرم نور ربه فقد تم خسرانه وعظم حرمانه.

أعظم خصائص القرآن أنه نور؛ لأنه من عند الله جلّ في علاه، فهو الذي تكلم به وأوحاه، وفصل آياته، وأحكم بيناته: (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا). ومحمد صلى الله عليه وسلم نور؛ لأن الله بعثه ووهبه من نوره وهداه بهداه (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا (45) وَدَاعِيا إِلَى اللهِ بِإِذنِهِ وَسِرَاجا مُنِيرا).

وبقدر اهتداء العبد ومتابعته وصدقه في طاعته يمنحه ربه نورا من نوره يبقى معه حتى يصل به إلى جنات النعيم.

والمؤمنون لما صدقوا في العمل بالكتاب واتباع الرسول، صلى الله عليه وسلم، جعل الله نورهم يسعى بين أيديهم جزاء وفاقا، ولما أعرض من أعرض من أعداء الله حرمهم الله ذلك النور، فبقوا في الظلمات فما لهم من نور، فنور الفطرة مع نور الهداية، ونور الكتاب مع نور الرسول، ونور البصيرة مع نور الحجة (نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).