الشيخ علي الطنطاوي.. شيخٌ ضمّ قلوب الملايين «على مائدة الإفطار»

جمع بين الدين والأدب والنقد المسرحي والإعلام

الشيخ الراحل علي الطنطاوي كان له موقع مهم في نفوس السعوديين وأبناء منطقة الخليج بشكل عام («الشرق الأوسط»)
TT

«على مائدة الإفطار»، برنامج عاصره المجتمع السعودي بكل شرائحه العمرية طيلة شهر رمضان على مدى سنوات كثيرة، ربما الأجيال الماضية يذكرون مُحيّا الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - بل حتى الأطفال ممن عاصروه في ذاك الجيل لسنوات عدة، وجسد بثوبه وعمامته البيضاء، وأطروحاته الدينية، المحفوفة بتواضع الطنطاوي المعهود، شخصا قريبا لنفوس الجميع كبارا كانوا أو صغار.

فمثل هذه الأيام في سنين مضت كان الشيخ الراحل علي الطنطاوي حاضرا بقوة في حياة السعوديين، أو ربما أبناء منطقة الخليج بشكل عام، ببرنامج يتزامن وقت بثّه مع وقت الإفطار في شهر رمضان المبارك، ويتم إعادته وقت الفجر، وهما التوقيتان المهمان في الشهر الفضيل، والأكثر متابعة من قِبل الأسرة السعودية المحافظة.

الشيخ علي الطنطاوي، ابن الشام الذي هاجر إلى السعودية عام 1963 ليعمل كمعلم في كليتي اللغة العربية والشريعة في العاصمة الرياض، ومن ثم انتقل إلى التدريس في كلية الشريعة الإسلامية بمكة المكرمة، عدا عن تفرغه للعمل بعد ذلك في مجال الإعلام وتقديمه برنامجا إذاعيا يوميا بعنوان «مسائل ومشكلات»، وآخر تلفزيوني أسبوعي يحمل اسم «نور وهداية». الطنطاوي لم يرزق بأبناء ذكور، حيث رُزق بخمس فتيات، فقد منهن ابنته «بنان»، وهي زوجة الشيخ عصام العطار، إثر حادث في ألمانيا، الأمر الذي ترك في نفسه أثرا كبيرا، إلا أن قوة إيمانه بالمولى عز وجل جعلته يحتسبها عند الله تعالى.

ومعروف عن الطنطاوي احترامه للمرأة، خصوصا وأنه كان دائم الدفاع عنها في أحاديثه، حيث كان يحذر الرجال من ظلمهن والتعدي عليهن، في ظل ترديده الدائم لمبدأ أن الدرجة للرجل على المرأة درجة واحدة وليست سلّما، إلى أن لقّبوه بلقب «ناصر المرأة».

وفي هذا الشأن أوضحت عابدة المؤيد العظم حفيدة الطنطاوي، التي ألّفت كتاب «هكذا ربّانا جدّي» وتعمل على فكرة تأليف كتاب آخر عنه، أن جدها كان نصير المرأة رغم أنه لم يكن يحب البنات في بداية حياته، إلى درجة أنه حزن عندما أنجبت له زوجته مولودة في أول حمل لها.

وعادت بذاكرتها في حديث لـ«الشرق الأوسط» وقالت: «حينما رُزق جدي بمولودته البكر كان يقول إنه انطبقت عليه الآية القرآنية (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ)، إلا أنه دائما يردد أنه لم يوارِ ابنته التراب، ولكنه وبعد أن أنجبت جدتي الابنة الثانية والثالثة بدأ يتقبل الوضع، ولا سيما أن ذلك كان سببا في اكتشافه للمزايا الموجودة في الأنثى».

وبيّنت أن جدّها الطنطاوي بات يدرس في ما بعد حاجات المرأة ومتطلباتها، مما ساعده كثيرا في التعامل مع بناته وشقيقتيه وكتاباته، الأمر الذي أعطاه أبعادا أكثر كي يستطيع دراسة الأنثى والدفاع عنها في نفس الوقت.

وأضافت: «كان جدّي الشيخ علي رحمه الله يعامل زوجته معاملة رائعة، لم تكن متوقعة من الرجل الشرقي، خصوصا وأنه يساعدها في إعداد الطعام الشامي الذي يعد صعبا، وهو ما جعله دائما يطلب منها أن لا ترهق نفسها في ذلك، عدا عن مساعدتها في بعض أعمال المنزل وإن لم يكن بشكل ملحوظ، فقد كان يحاول تخفيف العبء على زوجته في تأدية مسؤولياتها الزوجية».

أحمد آل مريع، أحد الذين التقوا بالشيخ علي الطنطاوي في أواخر حياته، أعد رسالة الماجستير حول الطنطاوي، التي طبعها بعد ذلك في كتاب يحكي حياة ذلك الشيخ الوسطي المعتدل، حيث أفاد بأن الراحل يمتلك عددا من وجوه العبقرية والحضور والإبداع في مجالات مختلفة تتضمن الأدب والشريعة الإسلامية. وقال لـ«الشرق الأوسط» عن رسالته: «كان الشيخ علي أستاذا ونموذجا للمثقف الموسوعي العائلي، خصوصا وأن خطابه كان بعيدا كل البعد عن الإصلاح السياسي في ظل توجهه نحو الإصلاح الاجتماعي، باعتباره يستهدف العامل والمرأة، مما جعله قريبا من المجتمع ويتسم بالبساطة والرغبة في التعلم».

وذكر أن الطنطاوي لم يعتمد في خطابه على إلقاء المعلومة الجامدة أو استعراض معرفته، وإنما كان يعمل دائما على تقديم المعلومة السهلة الميسّرة البسيطة، إلى جانب مساعدة القارئ والمستمع والمشاهد في التعلم مما يقدمه، مبينا أن الشيخ علي يتمتع بسعة أفقه وكثرة تجواله وحضور ذهنه وذاكرته القوية، وهو ما جعل أحكامه متسمة بالاعتدال وبعيدة عن الإفراط والتفريط.

وأضاف: «كانت لهذا الرجل قدرة هائلة في جذب المستمعين، وهو ما دفع بالدكتور أحمد بسام الساعي، أحد أعضاء هيئة التدريس في جامعة لندن، لأن يقدم دراسة بعنوان (الشيخ علي الطنطاوي وحركية الإلقاء الإذاعي)، حيث توجز مدى تميز الشيخ بالتلقائية، كونه لا يتصنع حتى في حديثه وحركته بهدوء، الأمر الذي جعله من أنجح الوجوه الإعلامية الدعوية، رغم أن خطابه لم يكن دينيا محدودا، بل كان اجتماعيا إصلاحيا يتأسس على وعي الإنسان».

وأشار إلى أن الطنطاوي كان عملاقا في الأدب، خصوصا وأنه من كبار الكتّاب في صحيفة «الرسالة» المصرية ورئيس تحريرها في فترة من الفترات، بعد أن أسندها إليه أحمد الزيات دون إسنادها إلى كبار الأدباء آنذاك، مما يدل على أن الشيخ علي كان وقتها عالما في مجال الأدب والكتابة الإبداعية.

ومن اللافت في شخصية الشيخ علي الطنطاوي أيضا أنه كان يميل إلى نقد المسرح والسينما، في ظل كتابته لفصول متعددة في مجلة «فتى العرب» كناقد للأفلام، ولا سيما أنه كان يركز على الجانب الأخلاقي فيها، ويحاول بقدر الإمكان إيصال رسالة إصلاح عن طريق الفن نفسه.

وهنا علّق أحمد آل مريع قائلا: «في مرحلة معينة وخلال الخمسينات، لاحظ الطنطاوي أن السينما انحرفت كثيرا عن مسار التثقيف والتعليم، مما جعله يحجم عن الكتابة في هذا الجانب كنوع من الاعتراض على هذا التوجه، إلا أنه كتب في الإبداع المسرحي، عدا عن رواية طويلة جدا كتبها أثناء فترة انتدابه لفرنسا ونشر منها مجموعة في مجلات متفرقة حينذاك، فقد كتب في أدب الأطفال والمقالة والسيرة الغيرية (سير الآخرين)».

وأضاف آل مريع: «ما كتبه الشيخ الطنطاوي رحمه الله عن والدته لم يكتبه أديب عربي، ومن أراد أن يقف على مقدار حب الابن لوالدته فحري به أن يقرأ الجزء الثاني من كتابه (الذكريات)، الذي جسد من خلاله مدى وفائه لأمه وتصويرها بصورة المرأة الصابرة التي قامت بتربيته وأخواته بعد وفاة والدهم، رغم أنها لا تملك شيئا، فضلا عن تعليمهم كيفية المحافظة على الدين والأخلاق». وكان ينظر إلى المرأة على أنها مستودع إصلاح المجتمع، انبثقت من كونه والد خمس فتيات وعائلا لشقيقتيه، كل ذلك جعله يرى أن قدرة الجنس الناعم إذا تم إقناعهن برسالة الإصلاح أقوى في التأثير على مجتمعاتهن من الرجل، خصوصا وأن الرجال عادة ما يكون صلاحهم لأنفسهم، فضلا عن أنه كان يحاول معالجة الإهمال الكبير الموجود في تعليم المرأة آنذاك، وإعطائها جزءا كبيرا من حريتها التي منحها لها الدين الإسلامي.

وبالعودة إلى حفيدته، فقد أفادت بوجود مشاركات وندوات كثيرة يقوم أفراد عائلتها بعملها للحديث عن جدها، باعتباره عاش ظروفا معينة في سوريا بين حقبة ثرية، إضافة إلى أنه شهد الدولة العثمانية قبل سقوط الخلافة والاحتلال الفرنسي ومجموعة من الانقلابات، إلى جانب تتلمذه على أيدي شيوخ كانوا مثقفين وواعين.

وزادت: «كل تلك الأمور لا يمكن أن تمر بشكل عادي على أي شخص مثقف وقارئ، وإنما هي ما شكّل شخصيته في ظل تمتعه بحبه الشديد للتعلم، ابتداء بالكتاتيب ومرورا بالشيوخ وانتهاء بتفوقه الكبير في دراسته».

وبيّنت أن الكثيرين من أبناء الجيل الحديث يعرفون الشيخ علي الطنطاوي، خصوصا وأنه الشيخ العصري الذي يربط الدين بالحياة ويتفهم مشكلات الشباب، عدا عن أسلوبه في الحديث مع المشاهدين بطريقة عفوية شبيهة بالأحاديث العائلية.

حقوق النشر لمؤلفاته منحها الشيخ علي قبل وفاته لأصهاره الذين يقومون الآن بإعادة إخراجها وإنزالها للسوق، ولا سيما أنها تباع بأعداد كبيرة نتيجة الإقبال الشديد عليها في الدول العربية والإسلامية، إلى جانب الكثير من طلاب العلم الذين يعملون على رسائل الماجستير، الأمر الذي يجعل عائلته محط أنظار الكثيرين من الناس.

الشيخ نادر، صهر الطنطاوي، قال لـ«الشرق الأوسط»: «لولا كتب الفقيد لأطفأت منارتي ولزمت بيتي، فالإقبال عليها كبير في ظل الطلب المتزايد، خصوصا في المنطقة الوسطى والرياض، وكثيرون يحفظون كتبه عن ظهر قلب»، مؤكدا أن الطنطاوي كان محبوبا بشكل كبير، وله مكانة ومنزلة لدى الناس، وذلك بسبب أسلوبه الأدبي الممتزج بالإصلاح والفقه الموسوعي والقلم الرائع للكبار والصغار.

وعلى الرغم من العروض التي تلقتها عائلة الشيخ علي الطنطاوي من عدة جهات لعمل مسلسل عن حياته، فإنهم قابلوها بالرفض لأسباب كثيرة، من ضمنها احتمالية تغيير طبيعة المسلسل للحقائق بهدف التشويق، عدا عن أن تمثيل شخصية الشيخ قد يسيء إليه بطريقة أو بأخرى.

مساء يوم الجمعة في الثامن عشر من يونيو (حزيران) لعام 1999، جاء أمر الله عز وجل ليختار الطنطاوي بعد صراع مع المرض، بدأ بنوبات قلبية، وانتهى بنزيف حاد في المعدة، لزم على إثره أياما كثيرة في العناية المركزة، ومن ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى، لتنتهي بذلك رحلة ترافق فيها الطنطاوي مع أبناء جيل كامل في المنطقة العربية، عرفوه على سجيته، وطبيعته، وتواضعه.