أحمد الأبيض: نشكو من التسطيح الثقافي وغياب الوعي المسترسل والرؤية الشاملة للدين

الداعية التونسي يدعو لتفعيل قيم رمضان خاصة والإسلام عامة

المفكر التونسي د. أحمد الأبيض («الشرق الأوسط»)
TT

دعا المفكر التونسي الدكتور أحمد الأبيض إلى تحرير فعالية الصيام، وجميع القيم الإسلامية لتحقيق النهضة المنشودة للأمة. وقال في حوار خاص بـ«الشرق الأوسط»: «لا بد أن يفهم الناس حقيقة الصيام، فليس الصيام مجرد تصرف شكلي ينقطع فيه الإنسان عن الطعام والشراب والجماع نهار شهر رمضان، من فجر اليوم إلى غروبه، وإنما لا بد أن نفهم دلالة الفعل ذاته». وتابع « لو تساءلنا ما معنى أن يكون المرء صائما، في الوقت الذي تدعوه فيه غريزته مثلا للممارسة الجنسية، فتقول له قيم الصيام التي يتمثلها لا، وعندما ينتابه العطش وهو صائم يقول لا، وعندما يحس بالجوع يؤخر ذلك إلى حين الإفطار، فمعنى ذلك أن الإنسان المتمثل لحقيقة الصيام يرفض أن يكون خاضعا لمقتضيات الشهوة ومقتضيات الغريزة أو أي مغر من المغريات». وأردف «هذه حقيقة الصيام، وهي أن يكون الإنسان محكوما في تصرفاته بمقتضى الوعي والإرادة والاختيار والمبدأ. فطبيعي إذن أن يتطرق القرآن بعد حديثه عن صيام رمضان إلى الحديث عن أنواع أخرى من الصيام عن الإعراض عن أكل أموال الناس بالباطل والإدلاء بها إلى الحكام. وهذا شكل آخر من الصيام لا ينفصل عن الصوم عن الأكل والشرب، ونجد أن الصوم يشمل قول الزور والعمل به، ومن لم يدع قول الزور والعمل به، كما يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له حاجة في أن يدع طعامه وشرابه. فالانقطاع عن الطعام والشراب لا يحقق هدف الصوم، فشهوة المال وشهوة السلطة كشهوة الطعام والشراب في حاجة لضوابط وفي حاجة للصوم. فالصوم بهذا المفهوم هو أكبر وأرقى من أن يختزل ويختصر فيه على الطعام والشراب فحسب. فالتحكم بالغرائز يكون بالعقل والإرادة والمبدأ».

وعن أسباب عدم تفعيل البعد الحضاري للصوم وغيره من قيم الإسلام في واقع المسلمين، أجاب الدكتور الأبيض «غياب الفهم والاكتفاء بالقشريات، والاكتفاء بظواهر النصوص، تجعل عقول البعض لا تلامس عمق النص ودلالة الأمر والنهي الإلهي فللصوم غاية وهي (لعلكم تتقون)». وقال الدكتور الأبيض «قلّ ما تم إبراز هذه القيمة، وكيف أن الصيام يقود إلى التقوى»، وتساءل «كيف نصل إلى التقوى وكيف يمكن تفعيل الصوم للوصول إلى هذه المرتبة المشرفة. فلو تبينا دلالة الصيام بالمعنى الذي تحدثنا عنه لكان واضحا كيف أنه يقودنا للتقوى بما أنه سلوك واع ومسؤول يتملى فيه الإنسان مواقفه ويحدد على ضوء المبدأ الذي اختاره أي سلوك يتخذ دون توقف ودون عجز».

وحول ما وصفه بتغييب «تجسيد المعاني ودلالات النصوص، وتسطيح العمق الثقافي وغياب الوعي المسترسل والرؤية الشاملة للدين، باعتبارها مقاربة عامة للحياة»، قال «اكتفينا بالطعام والشراب، ولم نلمس جوهر الصيام في ذلك، لماذا يحدثنا القرآن عن الدعاء في صلب الآيات التي تتحدث عن الصيام، وبذلك ندرك أن الامتناع عن الطعام والشراب ليس سوى معنى يقودنا لدلالات عميقة».

وأكد الدكتور الأبيض أن المصطلح الشائع في تونس هذه الأيام بخصوص سياسة تجفيف الينابيع التي مارسها النظام السابق، والتي يطلق عليها حاليا ظاهرة «التصحر الثقافي». وأكد الدكتور الأبيض أنها «شكل آخر من التجهيل.. نحن السائرون الكادحون إلى الله تعالى على درب الكدح، (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه)، من مقتضيات ذلك أن نسعى إلى تمثل صفات الله العليم ولذلك نطلب العلم، وننتج المعرفة ونقاوم الجهل، ونقاوم التجهيل أيضا».

وفي رده على سؤال بخصوص تحرير الفعالية القرآنية، ذكر بأنه «عندما نستوعب درس اللسانيات من أي نص قرآني أو آية لا نفهمه ونستوعبه إلا إذا سألناه فنحن نحاوره، ومستوى القارئ يؤدي دورا أساسيا في فهم النص، والسؤال يؤدي دورا أساسيا في فهم قضايا الناس. ونستهدي بكل العلوم والمعارف ذات العلاقة بالموضوع». وأشار إلى أن علماء الإسلام السابقين لم يكونوا متخلفين عن عصرهم بل كانوا قادة الاكتشافات العلمية «علماؤنا سابقا استغلوا المعارف التي كانت في عصرهم وتفوقوا فيها حتى إن بعضهم يعرف بأنه طبيب أو كيميائي أو عالم فلك أو رياضيات أو فلسفة أكثر من كونه عالما بالدين ولذلك لم تظهر في تاريخنا التناقضات بين العلم والدين كما هو الحال في ديانات معروفة للقاصي والداني». وطالب باقتفاء الأثر في طلب الحكمة «علينا باقتفاء آثار علمائنا السابقين في الجمع بين علوم الدين وعلوم العصر، ولكن ليس في شكل رجال موسوعيين وإنما في مؤسسات موسوعية تجمع بين التخصصات».

وأوضح أنه «علينا تجاوز السابقين، كما نطلب من اللاحقين تجاوزنا». وفي تعليقه عن قول عبد الله بن مسعود، «القرآن يفسره الزمان»، وما إذا كانت التفاسير السائدة اليوم في معظمها تتماشى مع هذا الفهم، أجاب «هذا صحيح لأنه بتقدم الزمن تتراكم المعرفة ونزداد علما بكثير من المسائل التي تساعدنا في فهم الكثير من الآيات التي تحدثنا عن بدايات الكون، وعن خلق الإنسان، وعن الكثير من الظواهر الطبيعية التي كشف عنها العلم بينما يحدثنا القرآن عنها منذ أكثر من 14 قرنا. وكذلك الآيات التي تحدثنا عن أحداث تاريخية قبل وقوعها وتمت بالفعل وتأخرنا في الكشف عنها هذا تقصير منا في تحرير الفعالية القرآنية».

وحول دور سيد قطب في مشروع تحرير الفعالية القرآنية كما سماها الشيخ راشد الغنوشي، أحال الدكتور الأبيض القراء إلى قول آخر للغنوشي «كثيرون وطوال عقود سيبقون عالة على الشهيد سيد قطب»، وقد قام الغنوشي بطبع كتاب تحت عنوان «نصوص مختارة من ظلال القرآن». وعن ذلك يقول الدكتور الأبيض «(الظلال) أقرب تفسير للناس يحدثهم عن قضاياهم وعن مشكلاتهم بلغة عصرية غاية في الروعة والجمالية وإضافة لكونه أديبا هو ناقد أدبي مميز». ويمضي متحدثا عن منهج قطب «يفسر كل سورة ويقسمها إلى مقاطع وكل مقطع له خاصيته الذاتية، ويحدد الترابط بين هذه المقاطع، وأنا أنصح بأن تطبع المقدمات في تفسير السور لتجعل ذلك ميسورا في مجلد واحد بدل أسفار عدة ليكون ذلك في متناول الناس».

وتطرق الدكتور الأبيض إلى مشروعه «التفسير الموضوعي للقرآن»، فقال «كنت وضعت خطة لي منذ عام 1991، ولكني رميت وراء القضبان لأن من يعمل عقله في تونس يتهم، وإعمال العقل كان تهمة كبيرة، وعندما أرادوا أن يسرقوا مني عمري، قلت لن أسمح لهم بذلك وعملت جاهدا على أن أستغل كل لحظة من زمني المسروق، وعزمت على وضع تفسير موضوعي للقرآن الكريم، وكنت آمل وأمني النفس بأن سجاني سيكون من طينة البشر وسيسمح لي بإدخال الكتب فمنعت من ذلك بل منعت من الورقة والقلم والمصحف، ولكني كنت مصرّا على أن أعمل عقلي في إنجاز مشروعي وقد أنجزت منه بعض المقاطع مثل (قراءة في الآخرة في القرآن)، وكتاب (استئناف القول في المعتقد الإسلامي)، والعلاقة بين المرأة والرجل في الفضاءات الأخرى غير العلاقة الجنسية أي بقية الساعات الـ24 وكيف تكون جميلة وممتعة، وهذا الكتاب يمثل إضافة في بابه سميته (في حوار الأنوثة والذكورة). وفي كتاب (الآخرة في القرآن) لم أكتف بالمشهد التصويري، وإنما ربطته بأعمالنا في الحياة الدنيا، بمعنى تطبيع العلاقة بين النص والسلوك حتى لا تبقى مجرد معلقات أو تمتمات تردد من دون تمعن وتبصر وتمثل». ويسترسل الدكتور الأبيض قائلا «الحديث عن الرسل هو في بعض أوجهه حديث عن الرساليين من بعده، ولكم في رسول الله أسوة حسنة، والحديث عن الملائكة حديث عن السمو الروحي وغلبة اليقين والإيمان والروح على كل ما سواها. بما يعني تنمية جانب السمو في النفس الإنسانية، ولذلك سميت عالم الملائكة بـ(المعارج). والإيمان باليوم الآخر يفسح لنا المجال لنحقق رغبة دفينة في النفس الإنسانية، وهي الرقي والخلود ولذلك دخل إبليس على آدم وحواء من هذا الباب (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين)، وكل إنسان مهما بلغت شروره يرغب في أن يكون ملكيا وخالدا».

أما العلاقة بين الزوجين في رمضان، فيقول عنها الدكتور الأبيض «تعود الناس على الظن بأن السمو الروحي بعيد عن اللذة، بينما أفراح الروح في حد ذاتها لذة، وفي الجنة نجد الحور العين، والرسول صلى الله عليه وسلم قبل إحدى زوجاته ثم خرج للصلاة، وقال صلى الله عليه وسلم، (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا أويأتي أحدنا شهوته، ويكون له بذلك أجر، قال أرأيتم لو وضعها في حرام ألا يكون عليه وزر)، نحن نريد عالما ممتعا في كل الوجهات».

ورفض الدكتور الأبيض ما يردده البعض من أن التشدد مطلوب في وقت التساهل، «لا أقول ذلك لأن هذا التيسير إلى حد التسيب ليس محكوما بعقيدة وإنما تسيب من أجل أن يضيع الناس، من أجل أن يركز المرء اهتمامه على نصفه الأسفل، فيسهل قياده بالطرق الاستبدادية. نحن نريد للعقول أن تستعيد هويتها، لكن حتى تستعيد دورها نحتاج إلى أن يلبي الإنسان انتظاراته من الأنوثة والذكورة، آنذاك تخرج الأجيال متفرغة للفعل والإبداع».

ويفسر العلاقة الروحية بأنها «أن نكون مع الله تحت أنظار الله طلبا لرضاء الله، وأهمية النية ليست موضع شك (للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه). ويمكن أن ندخل على النفس من باب الذكر الصلاة والتزاور، (وأن تلقى أخاك بوجه طلق)».

وعما يختلف في رمضان هذا العام عما سبقه، قال الدكتور الأبيض «رمضان هذا العام أراه بشائر لعهد جديد تدشن فيه الأمة مرحلة جديدة، تعلن بهذه الثورات التي انطلقت من تونس وامتدت إلى مصر وتتواصل في ليبيا واليمن وسوريا، وستمتد إلى آفاق أخرى تمثل فتوحات جديدة داخل وطننا تستعيد فيها أمتنا رسالتها الحضارية آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر وتعلن بداية العالمية الإسلامية الثانية».