مساجد تونس تعلن عودتها لأداء دورها الاجتماعي انطلاقا من شهر رمضان المبارك

الشيخ الهادي الصياح لـ «الشرق الأوسط» : ما اطلعنا عليه من نماذج يؤكد أن هناك أسرا منكوبة

الشيخ الهادي الصياح يؤكد إحياء دور مساجد تونس الاجتماعي بعد الثورة التونسية خلال شهر رمضان المبارك («الشرق الأوسط»)
TT

يتحدث الكثيرون منذ عقود، إن لم يكن منذ قرون، عن دور المسجد المنسي، بل المفقود، وهو دور يتجاوز ما يظنه البعض أنه مكان للصلاة وحسب. ويؤكد كثيرون أن أول ما قام به النبي، صلى الله عليه وسلم، بعد هجرته إلى المدينة هو إقامة المسجد النبوي. وعلى امتداد التاريخ الإسلامي، إذا استثنينا حقبة الانحطاط التي تسعى الأمة جاهدة للخروج منها، كان المسجد مركزا تعليميا، ومأوى خيريا، ومنتجعا صحيا، ومرفقا اجتماعيا يوزع فيه على الفقراء ما يحتاجونه. وعندما توسع العمران وتعددت التخصصات كان المسجد نواة لذلك كله، أي أنه أصبح قطبا للتجمعات السكانية والمرافق التي تحتاجها. وبعد الثورة التونسية، سعت جهات تونسية عدة، من بينها «جمعية الأئمة» إلى إحياء دور المسجد الطبيعي، لا ما رسخ في بعض الأذهان، وكانت البداية إحياء دور المسجد الاجتماعي ليساعد المجتمع ويسهم في التخفيف من حدة الفقر في تونس، لا سيما المناطق الريفية. وكان أول رمضان بعد الثورة نقطة الانطلاق للعمل الاجتماعي المسجدي.

وقال الشيخ الهادي الصياح، عضو جمعية الأئمة، لـ«الشرق الأوسط»: «المجتمع التونسي مجتمع وسطي، لا يتأخر عن المساعدة إذا امتلكها، ولكن اتسع الرقع على الراقع؛ فهناك ظاهرة الفقر المدقع، وزاد الطين بلة أن أرباب الأسر فقدوا مواطن العمل، وأغلقت الكثير من المصانع، وأصبح كثير من الأسر في حاجة ماسة للمساعدات العينية وغيرها».

وكانت الحاجة ماسة لعمل منظم في ظل عجز الدولة، وهو ما بادرت به «جمعية أئمة المساجد» في المدن والأرياف مع بعض التفاوت: «نلاحظ في المدن أن هناك حركية كبيرة لعملية التكافل الاجتماعي، وهناك قدرة على تمويل ومساعدة الأسر المحتاجة في المدن، أما الأرياف فما زال الأمر في بدايته».

جهود الحكومة المؤقتة تبعث على الرثاء، وليس أدل على ذلك من مشروعها المخيب للآمال: «هناك برنامج على مستوى الشؤون الاجتماعية، وبعض العائلات المعوزة ستتحصل على مساعدة تقدر بـ75 دينارا (33 يورو تقريبا) وهذه لا تفي بأي شيء، الأسعار مرتفعة، خاصة أسعار المواد الغذائية، وبالنسبة للأرياف هناك أماكن منسية، وعائلات في وضعيات مزرية، ولا يمكن حلها إلا بإحياء دور المسجد والمبادرة». وهذا النشاط التي بدأت جمعية الأئمة تقوم به جاء ليبقى: «نريد جعلها عادة، ففي العهد القديم لا بد من توافر الولاء وإمكانية الاستفادة من ذلك. مثل أن يكون المستفيد عضوا في الحزب الحاكم، وهو ما يمثل إهانة للعائلات المعوزة، والآن نشهد حركية وشيئا يبشر بكل خير».

من هذا الخير أنه «تم تشكيل هيئة في كل مسجد، تقوم بجمع التبرعات، ومن ثمَّ توزيعها على الأسر الفقيرة. وقد كونت جمعية أئمة المساجد لجانا على المستوى الجهوي تقوم بجمع الأموال ليقوم المسجد بدوره، وينشر الخير على أهالي المنطقة ليس على مستوى أداء العبادات فحسب بل على المستوى الطبي والتعليمي والاجتماعي فتجرى فيه عمليات الختان، والكشف الطبي في المناطق التي تفتقر إلى المرافق الصحية، وإلقاء المحاضرات، وحفظ القرآن، وحتى التدريس في الأماكن التي لا توجد بها مدارس، ويكون منطلقا لتخزين المواد الغذائية والملابس وغيرها من المواد العينية، إضافة للمادية، وغيرها، وكذلك تسجيل الطلبة المحتاجين للمواد الدراسية وحتى المنح الدراسية في وقت لاحق». بل يشمل برنامج المساجد ما هو أكثر من ذلك «حتى الإنسان الذي يشكو من ضائقة مالية أو ديون يجد في المسجد سندا ومعينا، بعد الله، على الخروج من ضائقته المالية وديونه، لا سيما إذا كان عاجزا عن العمل أو السداد».

وقد تكونت في المحافظات التونسية لجان على مستويين إقليمي وجهوي ومحلي لهذا الغرض: «نحن في بداية المشروع، ويضم المجلس العلمي عدة تخصصات، ففي المجلس هناك طبيب وممرض وصيدلاني ومهندس زراعي، وغير ذلك من التخصصات، وبذلك يكون المسجد ليس مصدرا للمعلومة الدينية فحسب، بل يكون مصدرا للمعلومة التي يحتاجها المسلم في حياته بكل مراحلها، ومتطلباتها، وليس المعلومة فقط بل المساعدة المطلوبة أيضا».

تم تكوين المجالس العلمية المسجدية على المستوى القطري في تونس وعلى المستوى الجهوي: «نحن بصدد استكمال تكوين اللجان على المستوى المحلي، وكان يمكن أن يبدأ هذا العمل منذ فترة طويلة، لكن طبيعة النظام المنهار حالت دون تفعيل رسالة المسجد، وهي رسالة الإسلام التي تشمل الحياة كلها، فهي مزرعة الآخرة ولا يوجد حصاد طيب من دون زرع طيب».

في السابق كان النظام يسيطر على كل شيء، فهو من يهيمن على جميع المؤسسات و«لا يسمح بتأسيس منظمات مجتمع مدني حر، وإنما منظمات معلبة أقيمت لتقدم شهادة مزيفة ومزورة للنظام أمام الرأي العام المحلي والدولي».

وحول نسبة الفقر التي تحددها بعض المصادر بـ5% وتقول مصادر أخرى إنها 24%، أجاب الشيخ الصياح: «هناك تفاوت بين الجهات، وبالتالي فإن نسبة الفقر في منطقة الساحل (جميع الوزراء منذ عهد بورقيبة حتى الحكومة المستقلة من الساحل) ليست نفسها في سيدي بوزيد مثلا؛ لذلك قامت الثورة ضد هذا الحيف، وعلى الرغم من شح المياه في محافظة القيروان مثلا هناك 16 بئرا عميقة محفورة داخلها منقولة مياهها إلى جهة الساحل التي لا توجد بها مناطق ريفية وإنما مناطق بلدية ومستوى الخدمات التي يقدم فيها أفضل بكثير من مستوى الخدمات التي تقدم في بقية مناطق البلاد».

هناك تفاوت كبير بين الجهات «ففي تونس هناك مناطق تشبه سويسرا وأخرى نموذج مصغر من إثيوبيا، ومن يمسكون بالسلطة ويرأسون كثيرا من المؤسسات وحتى الأحزاب هم من منطقة الساحل. هناك مركزية بأتم معنى الكلمة وكانت النتيجة ثورة 14 يناير (كانون الثاني) وإن شاء الله لن تضيع أهداف الثورة وستحقق العدالة والمساواة. ونحن نرجو أن تقام مشاريع في المناطق التي همشت على مدى يزيد على 50 سنة».

وعما إذا كان لديه عينات من الأسر المنكوبة، قال الشيخ الصياح: «هناك الكثير من الأسر الفقيرة، لكن لا توجد لدينا إحصاءات كاملة، ولكن النماذج التي اطلعنا عليها تؤكد أن هناك أسرا منكوبة بكل ما تعني الكلمة، سواء الأسر التي مات معيلها بعد الله، أو الأسر التي فقد فيها رب العائلة وظيفته بسبب التسريح من العمل أو المرض أو الإعاقة، أو الأسر التي تشكو الفاقة لضعف دخلها الشهري، لا سيما الأسر التي لديها أطفال في المدارس؛ حيث هناك فضيلة لدى الناس، وهي الحرص على التعلم، وكان أصحاب الشهادات العليا المعطلون عن العمل في مقدمة من أشعلوا الثورة». وفي الريف لا توجد مصانع ولا مشاريع فلاحية تمتص حالة البطالة المزمنة في المناطق الزراعية: «تتكون الأسر من 5 أو 6 أطفال، وبينهم مرضى أعصاب، وذوو الاحتياجات الخاصة، وغيرها من الأمراض المزمنة التي تحتاج إلى رعاية خاصة، هناك امرأة تعيش وحدها في كوخ لا تجد من يهتم بها، وقد اقترح عليها بعض الطيبين العيش معها في منزله».

وبخصوص أنواع المساعدات التي تحتاجها الأسر المعوزة، أشار الشيخ الصياح إلى أن «المواد الغذائية بدرجة أولى هي ما تحتاجه الأسر الفقيرة؛ لأن البعض لا يجد قوت يومه، والمواد الغذائية تلتهب أسعارها في كل يوم، كما تحتاج هذه الأسر كساء العيد، ومصاريف عودة أبنائهم للدراسة، وربع الشعب التونسي تحق له الزكاة؛ إذ إن الأمور الاقتصادية صعبة جدا».

في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل سيعود الطلبة إلى صفوفهم ومطلوب من هذه الأسر دفع «تكاليف الترسيم ومعلوم النقل يوميا ومعلوم المطعم الجامعي والسكن الجامعي، وهناك من له 3 و4 في الجامعة، ومهما كان دخل الإنسان يجد نفسه عاجزا عن التوفيق بين دراسة أبنائه وما تحتاجه الأسرة من طعام ودواء، فضلا عن الكماليات الأخرى». ويعتقد الكثير من التونسيين، ومنهم الشيخ الصياح، أن الأزمة ستمر: «ستفرج بعد الضيق والشدة بعون الله، ربي يفرجها علينا، أمور ظرفية وتعود المياه لمجاريها بعون الله». والآمال تزداد بعد تشكيل جمعية أئمة المساجد: «سيكون هناك حراك اجتماعي وسيكون المسجد هو مركز المنطقة التي يقام فيها وينشر الخير على من حوله. والمجالس العلمية تكونت لتعيد للمسجد دوره المفقود كالذي كان عليه جامع عقبة بن نافع؛ حيث كان يضم 300 حلقة علم في 24 ساعة، كانت المساجد عامرة ونريد أن نعيد ذلك، والعودة للدين على أسس صحيحة، نحن ننبذ الإرهاب والعنف، الشعب لا يقبل هذا، نحن ضحايا لإرهاب السلطة وعنفها، وإن شاء الله الأمور تسير على أحسن حال بعون الله».