علاقات فرنسا مع الفلسطينيين والعرب .. عرفات ابتسم وسط غيبوبته عندما قال له مرافقوه «أبو عمار أنظر.. شيراك جاء لزيارتك»

«زر» ديغول الذي لم يتخل عنه أبو عمار وكيف انقذه ميتران من الموت مرتين 1982 و1983 * لم ينس العرب صورة شيراك وهو يدفع بيده ضابطا اسرائيليا حاول منعه من لقاء فلسطينيين في القدس

TT

عندما زار الرئيس الفرنسي جاك شيراك أبو عمار في المستشفى العسكري في كلامار يوم الخميس الماضي، وهو في طريقه الى بروكسل للمشاركة في القمة الاوروبية، اقترب أحد معاوني الرئيس الفلسطيني منه وقال له بحسب ما نقله الرواة الذين كانوا حاضرين «يا أبو عمار انظر الدكتور شيراك جاء لزيارتك». وتروي ليلى شهيد أن أبو عمار «ابتسم». لكن مفوضة فلسطين في فرنسا، التي كانت ترد على أسئلة إذاعة فرنسية، استدركت قائلة إنها لا تعرف ما إذا كانت ردة فعل أبو عمار على مجيء الدكتور شيراك الى المستشفى واعية أم لا.

وسواء كانت «ابتسامة عرفات» واعية او غير واعية إلا انها تلخص الى حد كبير المسار الاستثنائي للعلاقات الدافئة بين فرنسا والقضية الفلسطينية وفرنسا وعرفات. ذلك أن ابو عمار الذي كان يحمل باستمرار «زرا» يقول إن الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال شارل ديغول أعطاه إياه في ظروف نجهلها، درج على تسمية شيراك بـ«الدكتور». وهنا تختلف التفسيرات، فالبعض يقول إنه لقب حاز عليه شيراك لأنه رجل المهمات الصعبة وللدور الذي لعبه في الدفاع عن عرفات أوروبيا ودوليا، وللثبات الذي اظهره في دعم الفلسطينيين على أكثر من مستوى. وثمة من يقول إن هذا اللقب مصدره حب العرب للقب «دكتور» وهو رمز المعرفة والتعمق في العلم، وحبهم لشيرك الذي جاء على رأس قائمة أكثر الزعماء شعبية لدى الشارع العربى، متفوقا على جمال عبد الناصر، في استطلاع للرأى اجرى قبل اشهر قليلة. وفى كل مرة كان يخرج فيها عرفات من قصر الاليزيه، كان يفاجئ الصحافيين بحديثه عن «صديقه الدكتور شيراك»، الى درجة أصبح معها هذا اللقب بابا للتندر بين أهل المهنة من الفرنسيين والعرب.

وللأمانة يجدر القول إن شيراك مثل نموذجا استثنائيا في صداقاته العربية. وندر أن عرف قصر رئاسي، باستثناء الاليزيه، هذا الكم من الزيارات الرسمية لكبار المسؤولين العرب من ملوك وأمراء ورؤساء ورؤساء حكومات. فالرئيس شيراك كان رئيس الدولة الغربي الوحيد الذي سافر الى أبو ظبي للتعزية بالشيخ زايد بن سلطان. وشيراك كان الرئيس الغربي الوحيد الذي حضر مأتم الرئيس السوري حافظ الأسد قبل أربعة أعوام. وبعد أن أعيد انتخاب الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لولاية ثانية ربيع العام الجاري، ذهب شيراك الى الجزائر لتهنئة صديقه. وكان شيراك أول رئيس فرنسي يقوم بزيارة دولة الى الجزائر العام الماضي منذ استقلال الجزائر عن فرنسا 1962. وفي هذه الزيارة التي سبقت الحرب على العراق بأسابيع قليلة، نزل الجزائريون بعشرات الآلاف الى الشوارع لتحية الرجل الذي رفض الانحناء أمام اميركا في الموضوع العراقي، حيث رفض منحها «بركة مجلس الأمن» لشن الحرب على العراق.

ولا يصعب تفسير موقف شيراك من العرب وقادتهم وقضاياهم. ذلك أن شيراك ينتمي الى التيار الديغولي، وهو وريث الحزب الذي أسسه الجنرال شارل ديغول والذي تحول معه الى «التجمع من أجل الجمهورية». وعاش هذا الحزب من 1974 إلى 2002 ليندمج مع أحزاب أخرى يمينية شكلت كلها «التجمع من اجل حركة شعبية»، وهو الحزب اليميني الرئيسي في فرنسا الذي ينتمي اليه رؤوساء الجمهورية والحكومة والبرلمان ومجلس الشيوخ والمجلس الدستوري ومجلس شورى وغيرهم.

وليست سياسة فرنسا العربية التي أرسى ديغول أسسها طارئة على الدبلوماسية الفرنسية، بل هي إحدى الثوابت التي ينهض عليها تحرك فرنسا على المسرح الدولي. بعد أن قلبت باريس صفحة الحرب الثلاثية على مصر واحتلال قناة السويس عام 1956 بالاشتراك مع بريطانيا وإسرائيل. وبعد أن تخلصت من عبء حرب الاستقلال الجزائرية، بدأت ترتسم ملامح هذه السياسة العربية التي كانت أولى تجلياتها إدانة الجنرال ديغول للاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في حرب الأيام الستة ثم فرض حظر مبيعات السلاح على إسرائيل عام 1968 بسبب هجومها على مطار بيروت، حيث دمرت عدة طائرات مدنية تابعة لشركة «ميدل ايست» اللبنانية التي كانت شركة «اير فرانس» تملك حصة كبيرة فيها.

وغاب ديغول لكن سياسته العربية تجذرت واستمرت. ومنذ تنحيه عن السلطة 1968 عقب ثورة الطلاب اليساريين والإستفتاء الذي خسره ورحل بسببه، حافظ خلفاؤه في قصر الأليزيه، سواء كانوا من اليمين أو اليسار، على خطه السياسي الذي يتوكأ على مبادئ راسخة. ولكن ايضا على مصالح سياسية واقتصادية ونفطية استراتيجية. فمع الرئيس جورج بومبيدو ووزير خارجيته ميشال جوبير الذي كان الأمين العام للرئاسة، ترسخت هذه السياسة ولعبت باريس دورا مهما في التقريب بين الإتحاد الأوروبي والعالم العربي. وساعد على ذلك ظهور العرب كقوة نفطية فاعلة على الساحة العالمية خصوصا مع بدء استخدام البترول كسلاح سياسي في النزاع العربي الإسرائيلي وفي حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973.

وثابر الرئيس فاليري جيسكار ديستان على هذا الخط في مرحلة كانت منظمة التحرير الفلسطينية بنظر العالم الغربي منظمة إرهابية، خصوصا بعد عملية ميونيخ ضد الرياضيين الإسرائيليين وعمليات خطف الطائرات الى عمان وأماكن أخرى عبر العالم. وفى 1974 أرسل جيسكار ديستان وزير خارجيته جان سوفانيارغ الى بيروت للاجتماع بابو عمار. كان سوفانيارغ أول وزير خارجية غربي يلتقي الزعيم الفلسطيني، وساهمت خطوة فرنسا الدبلوماسية الجريئة في فتح باب في كوة الحصار الدبلوماسي الغربي المفروض على عرفات. وكانت فرنسا وراء «بيان البندقية» 1979 الذي أقرت بموجبه المجموعة الأوروبية، التي تحولت في ما بعد الى الاتحاد الأوروبي، حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، ما يعني حقه في إنشاء دولة مستقلة. ورغم وصول زعيم الحزب الإشتراكي فرنسوا ميتران الى رئاسة الجمهورية 1981 وهو المعروف بصداقاته لإسرائيل ولعدد من الشخصيات اليهودية، الا انه كان أول رئيس أجنبي يدعو 1982 أمام الكنيست الى إقامة دولة فلسطينية. وبذلك يكون ميتران قد كسر محرما وجهر علنا بما كانت تهمس به الدبلوماسية الغربية من الحاجة الى دولة فلسطينية كحل لا بديل عنه لإنهاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.

وميتران نفسه الذي فتح ابواب الأليزيه أمام عرفات، انقذ الزعيم الفلسطيني جسديا مرتين. الأولى 1982 إبان الغزو الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت. اذ لعب السفير الفرنسي في بيروت دورا مركزيا الى جانب الولايات المتحدة الأميركية ومصر في ايجاد حل يسهل خروج 14 ألف مقاتل فلسطيني، على رأسهم ابو عمار، من لبنان تحت أعين وفوهات دبابات الجيش الإسرائيلي. وفي العام الذي يليه سهلت البحرية الفرنسية خروج أبو عمار من طرابلس حيث حاصرته القوات الفلسطينية المعادية له. ويروي ارشيف وزارة الخارجية الفرنسية أن الدبلوماسي الفرنسي برونو دوليه، الذي كان وقتها مستشارا للوزير كلود شيسون، وأصبح لاحقا مدير التعاون الدولي في الخارجية الفرنسية، أنزل بالحبال من طوافة فرنسية فوق فرقاطة عائدة لسلاح البحرية الفرنسية كانت مقابل شاطئ طرابلس، للإشراف على عملية إخراج عرفات من عاصمة لبنان الشمالي.

في 1995، أصبح شيراك رئيسا للجمهورية الفرنسية، وبعد عام واحد قام بزيارة الى إسرائيل والى الأراض الفلسطينية وتحديدا الى القدس الشرقية. ويتذكر المشاهدون الفرنسيون ومعهم ملايين المشاهدين عبر العالم صورة شيراك وهو يدفع من أمامه احد ضباط الشرطة الإسرائيلية وهو يصرخ بوجهه بسبب مضايقته له ومنعه من الاحتكاك بالفلسطينيين الذين كانوا يحاولون الاقتراب منه في احد شوارع القدس القديمة. وتناقض هذه الصورة صورة رئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان وهو خارج في فبراير (شباط) عام 2000 من إحدى جامعات الضفة الغربية تحت رشقات الحجارة لشباب فلسطينيين غاضبين من تصريحاته عن عمليات حزب الله اللبناني.

وكانت باريس أشد المنددين بالزيارة التي قام بها أرييل شارون في سبتمبر (أيلول) 2000 الى ساحة المسجد الأقصى والتي شكلت استفزازا فاضحا لمشاعر الفلسطينيين وكانت الشرارة التي أشعلت الانتفاضة الثانية. ورغم معارضة الحكومة الإسرائيلية وشارون بالذات أي لقاءات دولية مع عرفات في اطار محاولة نزع الشرعية عن الرئيس الفلسطينى، اصرت فرنسا على التعامل مع عرفات كرئيس شرعي منتخب للفلسطينيين. ولعل أفضل مثال على ذلك زيارة وزير الخارجية ميشال بارنييه إلى الأراضي الفلسطينية أواخر يوينو (حزيران) الماضي وبقاؤه ليلة في رام الله، وهذا ما لم يقم به أي وزير خارجية فرنسي سابقا. لم يقم وزير خارجية بانتقاد ظروف العزلة التي فرضتها إسرائيل على أبو عمار في «المقاطعة»، كما انتقدها بارنييه الذي اعبرها «مهينة» بحق زعيم منتخب من قبل شعبه.

وعندما أبرق قنصل فرنسا في القدس ريجيس كوتشت الى الخارجية الفرنسية يخبرها برغبة القادة الفلسطينيين في ارسال عرفات الى باريس لإجراء فحوص طبية، نقلت فحوى الرسالة الى الرئيس شيراك الذي كان في زيارة رسمية. واتخذ شيراك «شخصيا» قرار استقبال عرفات في مستشفى فرنسي متخصص في أمراض الدم وأرسل طائرة فرنسية حكومية مجهزة بكل المعدات الطبية لنقل الزعيم الفلسطيني. وحتى آخر لحظة ولآخر رمق وقفت فرنسا ورئيسها الى جانب عرفات محاولة إنقاذه. وإذا كانت قد نجحت في مرتين سابقتين، فإنها عاجزة هذه المرة رغم الجهود الضخمة التي بذلها «الدكتور شيراك».