حكايات من مدينة المآذن.. أهالي الفلوجة دروع بشرية وعملية «الفجر» تحصد جغرافيا المدينة

TT

* كانت الفلوجة تسكنها الطمأنينة ولا يرتادها رجال الأمن إلا اذا كان لهم فيها اقارب او أهل يتطلعون لزيارتهم في أيام الجُمع، لكن مدينة الفلوجة تبدو اليوم بحال آخر. فزائروها في الارض وفي السماء يحملون معهم ما يجعل الطمأنينة ابعد ما يكون عنها. فالموت يحاصرها ويدخل بين الأزقة والشوارع التي لم تألف وجوده وبهذه الكثافة. «الشرق الأوسط» دخلت مرات عدة الى هذه المدينة، وفي كل مرة كانت هناك حكايات نقلتها لنا وجوه كان الخوف ابرز ملامحها.

* حكاية رقم 1

* المشهد يختلط بين الحياة والموت، الطفلة شهد كانت تبحث عن لعبها بين أنقاض البيت الذي طاله القصف الجوي، لكنها لم تجد سوى ثقوب في جدران البيت وحطام اسرة كانت تنام على احدها مع لعبتها التي اضاعتها الحرب. في جانب آخر، كان احدهم يصرخ ويؤكد ان لا ذنب للناس في دفع الثمن من حياتهم بسبب وجود عناصر من خارج المدينة. هذا الصراخ لم يوقف شهد عن بحثها المتواصل عن تلك اللعبة التي تراها عزاءها الوحيد وسط هذا الدمار.

* حكاية رقم 2

* مدينة الفلوجة تبعد عن بغداد حوالي 50 كيلومترا ومع ذلك لم يعتد أهلها على مغادرتها طويلا إلا في زياراتهم لبعض الأهل في عدد من المحافظات القريبة وخصوصا بغداد. لكنهم هذه الايام اعتادوا الرحيل والترحال بسبب الأزمات التي تلاحقت على المدينة واستمرار القصف الجوي لها، مما دفع سكانها للهروب منها والعودة اليها بعد كل أزمة. في نفس الوقت الذي تصر فيه بعض العوائل على عدم مغادرتها لعدم وجود أقارب لهم في أي محافظة عراقية اخرى، تفضل عوائل اخرى النوم في المخيمات على الموت تحت أجواء تسكنها الطائرات الحربية وأرض تزدحم بالقاذفات.

* حكاية رقم 3

* اهل العراق يطلقون على مدينة الفلوجة مدينة المآذن لكثرة الجوامع فيها، وقد عرفت المدينة أيضا بطابعها الديني الذي منحها بعدا خاصا، جعلنا وفي جولاتنا الثلاث نرتدي ما يناسب ذلك الطابع. ولدى توقفنا في احدى المرات عند مجموعة من الملثمين طلبوا منا الذهاب الى احد الجوامع التي تعتبر مرجعا لهم كشرط للكلام حول الأوضاع فى الفلوجة. فالمسألة كما قال لي أحدهم لا تتعلق به وحده، بل بكل الجماعة التي ينتمي اليها. وهنا كان لابد لنا ان نسأل الناس لأنهم أصحاب الرأي في هذا الامر، وقد أجابني غالبيتهم بأن لا ذنب لهم في كل ما يحصل، وان ما يريدونه فقط هو العيش بسلام وهو ما يفتقدونه منذ زمن طويل.

* حكاية رقم 4 مع بدء القصف الاميركي المتواصل للمدينة، تراجع الوضع الصحي بشكل كبير. ووجه احد اطباء العيادات الشعبية هناك نداء «الى المنظمات الانسانية في العالم، لان المستشفى العام تحت سيطرة القوات الاميركية وهو يقع في الجانب الغربي من المدينة ولا يمكن للاطباء الموجودين في الجانب الشرقي منها الوصول اليها ولذلك اتخذوا من إحدى القاعات السينمائية عيادة طبية لعلاج الجرحى الذين لا يجدون الأدوية اللازمة والمستلزمات لإجراء العمليات الضرورية. هذا الأمر يذكرنا بالناس الذين لم يجدوا طريقا لدفن موتاهم في معارك الفلوجة السابقة، فاتخذوا من ملعب كرة القدم مقبرة لذويهم ممن سقط في تلك المعارك.

* حكاية رقم 5

* الآن تدور المعارك بين عشرة آلاف من مشاة البحرية الأميركية يلازمهم الفا جندي من القوات العراقية ويقابلهم في الجانب الآخر بضعة آلاف من المسلحين داخل الفلوجة الذين على ما يبدو يعرفون ازقة المدينة وشوارعها التي بدت مدينة هجرتها الحياة.

* حكاية رقم 6

* احدى العوائل النازحة الى منطقة الحبانية السياحية جاءت الى هذه المدينة بعد ان اشتد القصف على حي الشهداء، وهو أحد الاحياء في مدينة الفلوجة، لكن قلوبهم ما زالت معلقة عند حي نزال وحي المعلمين وحي نواب الضباط والحي الصناعي. فلديهم هناك احبة وأصدقاء ربما سيغتالهم الموت الذي لا يعرف معنى ان تحترق الأفئدة بنار الفراق. الكثير من الناس لا يعرفون لماذا تستهدفهم الحرب؟ ولماذا تختبئ في مناطقهم البنادق التي قد تنتمي لهذه الجماعة او تلك؟

* حكاية رقم 7

* لم يكن الوقت ليلا لكن كل الأشياء كانت تسير تحت جنح الظلام.. هكذا بدأ أحد أبناء مدينة الفلوجة حديثه مع «الشرق الاوسط» فهو كما يقول لا يعرف لماذا لا تتدخل الحكومة بشكل فاعل لحل أزمة الفلوجة أو اية أزمة تمر على أي مدينة عراقية؟ ثم طرح أسئلة كثيرة كان اولها ما ذنب الناس وآخرها من المسؤول؟

* حكاية رقم 8

* قد تبدو الحكاية هذه المرة اقرب للفكاهة في وسط الجحيم فقد اسرنا في احدى تلك الزيارات منظر شاب ملثم اقترب منا، وقال: «سأدلكم على مكان الزرقاوي وعليكم إعطائي وعدا بعدم الكشف عن اسمي مع منحي جائزة هذا الكشف». انتابنا الفضول المعتاد وأخذتنا خطانا خلف ذلك الشاب الملثم وإذا بنا ندخل سوقا صغيرة محلاتها تعد على أطراف الأصابع، ليقول لنا هذا الشاب «هنا ستجدون الخضراوي والزرقاوي والباذنجاني والحمراوي، ونحن هنا لا صلة لنا بكل تلك الالوان التي تبحثون عنها». وهنا تركنا الشاب وحدنا نحاول ان نصل للمعنى الذي قصده.

* حكاية رقم 9

* من وسط تلك المدينة وعند الحي الصناعي استوقفتنا مجموعة من الشباب الذين يعملون في اصلاح محركات السيارات كانت معالم الحاجة واضحة على محياهم. وفى تلك اللحظة سألني أحدهم عن كيفية وصولنا الى المدينة وقناصة الطريق في كل مكان؟ عندها اجبته بسؤال مماثل عن كيفية تحركهم والقناصة في كل مكان أيضا؟ أجابني والدمعة كادت تفر من عينيه بأن اطفاله «لا يعرفون كلمة قناص وعلي ان أوفر لهم لقمة عيشهم، ومع صعوبة توفرها أجد ان الحياة باتت مستحيلة وأنا افكر في الرحيل من المدينة مع انني لا أملك أقارب في أية منطقة في العراق فكل اقاربي داخل الفلوجة».

* حكاية رقم 10

* المدينة التي يجري فيها القتال الآن كانت تضم حوالي 300 الف نسمة وبفعل أزماتها المتلاحقة تناقص العدد مؤخرا الى اقل من 30 الف نسمة. فقد هاجر اهلها الى مناطق اخرى من العراق محاولين ايجاد منفذ للامان بعيدا عن التوتر والموت. احد النازحين من هذه المدينة والذي تركها قبل اكثر من شهرين يقول ان حياة اطفاله كانت في خطر وكان عليه انقاذهم من المأساة التي من الممكن ان تلحق بهم، ولذلك قرر ان يترك كل الاشياء بما فيها مدارس الاطفال وينجو بهم من الموت. ويقول ان الحياة باتت مستحيلة هناك وعليه ايجاد سبيل للحياة في مكان آخر.

حكاية قد لا تبدو هي الأخيرة

* المشهد ما زال يختلط بين الحياة والموت وضحايا هذه المفارقة دائما هم سواد الناس. وعلى مدى ثلاث زيارات، كنا دوما نحاول الوصول اليهم وفي كل مرة تكون اكتشافاتنا تقترب من المحدودية لمحدودية كلام اهل الفلوجة الذين كانوا الى وقت قريب ينعمون بحياة اقتصادية جيدة وفرتها لهم تجارة الاغنام والاعمال الحرة. وهم الآن غادروها مرغمين الى حياة الترحال بين الحياة والموت.