الذكرى العاشرة لحرب الشيشان

غروزني لم تقدم هدية ليلتسين في عيد ميلاده والاستيلاء عليها لم يستغرق ساعتين

TT

عشرة أعوام مرت على اندلاع الحرب الشيشانية تفتح باب الذاكرة امام تداعي وقائعها والمقدمات التي ادت للحرب التي لم يخب أوارها حتى الان. خلافات حول السلطة بين «نجم البيريسترويكا» ميخائيل جورباتشوف، و«المتمرد» على قوالب الماضي بوريس يلتسين، سرعان ما وفرت المقدمات لما يعيشه الروس حتى الان. وما دامت الغاية تبرر الوسيلة فلم يكن غريبا ان يلجأ كل من الغريمين إلى كل ما من شأنه زعزعة مواقع الآخر، وما تبقى من استقرار في البلاد. فمن ناحيته، شدٌد يلتسين هجومه للتخلص من ربقة السلطة المركزية في الكرملين. ورد عليه جورباتشوف بطرح الجمهوريات ذات الحكم الذاتي طرفا رئيسيا في مداولات صياغة المعاهدة الاتحادية الجديدة، ما كان يعني عمليا وضع يلتسين رئيس روسيا في وضعية متساوية مع رؤساء الجمهوريات التابعة اداريا له والتي تشغل مساحة 51% من مساحة روسيا الاتحادية وتملك قرابة ثلثي ثرواتها الطبيعية. وجاء الرد سريعا: اطلق يلتسين صيحته المدوية «عليٌ وعلى اعدائي.. فلتأخذوا من الاستقلال ما تستطيعون أن تبتلعوه».

اطلقها يلتسين في جمهورية تتارستان لتدوي عالية في الشيشان. ولم يكن ابناء هذه الجمهورية الجبلية في حاجة إلى إذن أو إلى قرار . فلم تكن الذاكرة قد نسيت او تناست بعد تاريخ الامس القريب وذكرى الامام شاميل قائد اول مسيرة تحررية لهذا الشعب الجبلي ضد الامبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر. وفي مثل هذه الاجواء وتحت رايات استعراضات السيادة والاستقلال في مختلف ارجاء الدولة السوفياتية انطلقت «الثورة الشيشانية» التي باركها يلتسين. ولم يكن غريبا ان يبادر بايفاد ممثليه ومنهم نائبه الجنرال الكسندر روتسكوي ووزير اعلامه ميخائيل بولتورانين دعما لرمزها الجنرال جوهر دودايف قائد فوج المقاتلات الاستراتيجية في استونيا الذي اعتلى موجة الحركة القومية واستفاد من احتدام خلافات ابناء الوطن الواحد. قفز دودايف إلى السلطة في الشيشان، كما سارع إلى الاستيلاء على كل الاسلحة والعتاد العسكري السوفياتي الموجود على الارض الشيشانية فيما اتخذ قواعد القوات الصاروخية الاستراتيجية قواعد لتدريب المقاتلين تحت سمع وبصر وبمباركة الكرملين الجديد، وذلك بعدما تنازل غورباتشوف عن السلطة.

ولان عدوى الانفصال باتت على أبواب الكثير من الكيانات القومية في شمال القوقاز، أفاق يلتسين بعد طول سبات. عكف على محاولات معالجة أخطاء الامس وكانت الامور قد دانت للجنرال دودايف بعد نجاحه وبمساعدة يلتسين في القضاء على مناوئيه. وتحولت الشيشان إلى بؤرة عدم استقرار في شمال القوقاز فيما نشط أعوان الجنرال في موسكو واستقطبوا الكثيرين من اركان النظام إلى جرائم تهريب وغسيل الاموال في الوقت الذي قاموا فيه بتصدير النفط الشيشاني دون حصول موسكو على اية عوائد. وفي الوقت الذي بدا فيه نظام دودايف يترنح تحت وطأة انتشار البطالة والفقر وبدأ الكثيرون من ابناء الشيشان يشعرون بسلبيات وأخطاء التسليم لحفنة من مدعي التغيير ما كان ينذر بانتفاضة معاكسة. وأقدم يلتسين على سقطة أخرى من سقطاته التاريخية التي لم تكن تدانيها سوى مؤامرته التي أطاحت بالاتحاد السوفياتي السابق. تحول يلتسين إلى محاولات التخلص من غريمه الجديد. أوفد الكثيرين من ممثليه لاستقطاب أعداء الامس وفي مقدمتهم دوكو زافجايف رئيس البرلمان الذي سبق وقصفه دودايف بمباركة يلتسين في اعقاب انقلاب اغسطس (اب) 1991، اضافة الى عمر افتور خانوف وسلام بك حجييف وهؤلاء من المعروفين بولائهم للسلطة الروسية. غير ان نظام دودايف والذي كان قريبا من الاحتضار السياسي استطاع استجماع قواه واستعادة زخم الشعارات القومية التي طالما دغدغت مشاعر أبناء الوطن من الطامحين إلى الحرية والاستقلال فيما نجح في الاستفادة من رصيد الصحوة الدينية. ولكم كان غريبا ان ينجح الجنرال الشاب في اصطياد رجال المخابرات الروسية الذين أوفدهم الكرملين لمساعدة ممثليه وأصدقائه من أبناء الشيشان في حركتهم الانفصالية ما زاد من رصيده وشعبيته. وفيما اعتبر الكثيرون ذلك صفعة موجهة ضد الرئيس يلتسين شخصيا اقدم الاخير على خطوة عبثية اخرى تمثلت في قرار الحرب في الشيشان بعد رفض دودايف الامتثال لقرار حل التشكيلات العسكرية والاعتراف بالسلطة الفيدرالية. وركن يلتسين إلى نصائح مساعديه ومنهم وزير دفاعه بافيل جراتشوف الذي أقنعه بان الاستيلاء على غروزني عملية لن تستغرق اكثر من ساعتين فيما تندر الكثيرون لاحقا من وعود عدد من اصدقاء الجنرال جراتشوف حول تقديم غروزني «هدية» له في ذكرى عيد ميلاده في اول يناير (كانون الثاني) 1995 . فما ان تجاوزت اولى الوحدات العسكرية الحدود إلى داخل اراضي الشيشان حتى انتفض الشعب الشيشاني تحت تأثير العداء التاريخي للسلطة المركزية في الكرملين، في الوقت الذي انحاز فيه الكثيرون من أبناء الشعب الروسي إلى الشيشانيين في معركتهم ضد يلتسين. اهتزت الساحة الروسية وتحولت الحرب في الشيشان إلى احد اهم مبررات الهجوم ضد يلتسين الذي فقد رصيده بين الاوساط الديمقراطية المحلية والعالمية. ورغم نجاح القوات الروسية في اغتيال اول رئيس للجمهورية الشيشانية وهو جوهر دودايف بصاروخ جوـ ارض في ابريل (نيسان) 1995، الا ان المقاتلين استطاعوا فرض سيطرتهم العسكرية واستعادة العاصمة غروزني بعد معارك ضارية تكبدت القوات الروسية خلالها الكثير من الهزائم المهينة. ومع توالي مشاهد المواجهة العسكرية وتزايد الكوارث الانسانية التي لحقت بالشعب الشيشاني، اعلن يلتسين عن قبوله الجلوس إلى مائدة المفاوضات بعد ان رفض في السابق الكثير من نداءات دودايف التي طالب فيها بالتفاوض. واعلن في اعقاب فوزه بانتخابات الجولة الثانية عن ايفاد الجنرال الكسندر ليبيد سكرتير مجلس الامن القومي آنذاك للتفاوض مع الجنرال اصلان مسعدوف الذي تولى قيادة القوات الشيشانية في اعقاب اغتيال دودايف. وفي خسافيورت على الحدود الشيشانية الداغستانية وقٌع الطرفان الوثيقة المشهورة بعد منتصف ليلة 31 اغسطس (اب) 1996 والتي تقضي بجلاء كل القوات الروسية عن الاراضي الشيشانية والاستفتاء حول مستقبل الشيشان في غضون خمس سنوات. هكذا وافقت موسكو على التخلي عمليا عن الشيشان. وخرجت القوات الروسية. وجرت في الشيشان في فبراير (شباط) 1997 اول انتخابات حرة تحت رعاية ورقابة دولية، فاز بها الجنرال اصلان مسعدوف في مواجهة الكثيرين من زعماء المقاتلين من رفاق الامس ومنهم شاميل باسايف، وسليم خان يندربييف الذي اغتيل في قطر، ومولادي اودوجوف واحمد زكايف وآخرون. ولعل ما قام به باسايف من اخطاء شوهت سياسات رفيقه مسعدوف ومنها غزوه مع المقاتل العربي الاصل خطاب لداغستان المجاورة بهدف بناء الدولة الاسلامية الموحدة في شمال القوقاز كان بداية النهاية لحركة المقاومة الشيشانية في شكلها كحركة مقاومة قومية مشروعة. وراح الكثيرون يستعيدون إلى الاذهان ما قام به باسايف ومقاتلوه من جرائم في حق الشعب الروسي ومنها اختطاف مستشفى الولادة في بوديونوفسك 1995 والذي كان مقدمة لارغام حكومة فيكتور تشيرنوميردين على الجلوس إلى مائدة المفاوضات والتسليم بالخروج من غروزني. وتعاقبت العمليات الارهابية مثل حادث اختطاف رهائن مسرح موسكو في عام 2002 واخيرا اطفال مدرسة بيسلان في سبتمبر (ايلول) الماضي.

ولذا كان من الطبيعي ان يبزغ نجم فلاديمير بوتين في اغسطس (اب) 1999 بعد نجاحه في طرد المقاتلين من داغستان وبدء حملته لاستعادة الجمهورية الشيشانية إلى التبعية الفيدرالية، معلنا عن انتهاء عصر السيادات الذاتية وأفول نجوم حركات الانفصال والاستقلال. كان الشعب الروسي في معظمه تواقا لظهور مثل هذه الشخصية بعد ان سئم تنازلات يلتسين ونكوصه عن تنفيذ الكثير من وعوده. جاء بوتين ليسجل في اشهر معدودات الكثير من الانتصارات العسكرية التي اضطرت المقاتلين إلى الرحيل عن شمال الشيشان وكبريات مدن الجمهورية. استفاد بوتين شعبيا من التذمر والسخط الهائل من جانب الغالبية الساحقة من ابناء الشعب الروسي في اعقاب تحول المقاتلين إلى تفجير المساكن في كل من موسكو وعدد من المدن الروسية. ووجد بوتين داخل الشيشان من يشاطره الرؤى والمواقف. انحاز اليه من فقد الثقة في رفاق الامس وخاب أملهم في تحقيق الفكرة الوطنية حول الانفصال عن روسيا وفي مقدمتهم الحاج احمد قادروف مفتي الجمهورية. غير ان الانتصارات السريعة التي حققها بوتين مع أولى اشهر الحرب الشيشانية الثانية في عام 1999ـ 2000 وكانت رصيده الذي حقق بفضله انتصاره الساحق في الانتخابات الرئاسية الروسية، سرعان ما أعقبتها انتكاسة لا تزال روسيا تعيش تبعاتها حتى اليوم. فقد تحول المقاتلون إلى تكتيك مغاير تمثل في نقل الحرب إلى داخل الاراضي الروسية من خلال العمليات الارهابية واختطاف الرهائن على غرار ما جرى في مسرح موسكو ومدرسة بيسلان في أوسيتيا الشمالية. ولعل مثل هذا التحول المأساوي لمثل تلك الحركة الوطنية القومية في مثل هذا التوقيت يبدو أسوأ نهاية لفكرة مخملية لطالما دغدغت حماس الملايين داخل الوطن وخارجه وإن حاول البعض تأكيد ان النهاية لا تزال بعيدة وان أجمل الأيام لم تأت بعد.