صفقة عزام.. حسابات الربح والخسارة

TT

كثيرون تساءلوا باستغراب عن سر القرار المصري المفاجئ، هذا الأسبوع بإطلاق سراح عزام عزام، المواطن الإسرائيلي العربي الدرزي الذي ينتمي إلى فلسطينيي 1948، والذي أدين بالتجسس لصالح إسرائيل، وكثيرون لم يخفوا غضبهم من «الثمن البسيط» للإفراج عنه وهو إطلاق سراح ستة طلاب مصريين كانوا قد اجتازوا الحدود إلى إسرائيل بطريق الخطأ، كما يقول البعض، أو ليعبروا عن احتجاجهم على السياسة الإسرائيلية العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني، كما يقول البعض الآخر.

وقال المنتقدون للخطوة المصرية إن مبادلة عزام كان يجب أن تتم مقابل ألوف الأسرى الفلسطينيين مثلما فعل «حزب الله» اللبناني، بل فوجئ البعض بأن مصر لم تطالب إسرائيل بإطلاق سراح 47 سجينا مصريا آخرين في السجون الإسرائيلية، يقال إن بينهم بعض الأسرى السياسيين. وحسب ما جاء في كتاب «السلام المفقود» لدنيس روس، المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، فإن معظم هؤلاء سجناء جنائيون لكن بينهم أيضا متهمون بالتجسس على إسرائيل. وبرغم الانتقادات، فإن ما جرى هذا الأسبوع هو أكبر من صفقة تبادل أسرى، وإذا صدقت النوايا فإن نتائجه ستكون أهم من «الثمن التقليدي» الذي يدفع في صفقات كهذه. وهناك صعوبة مفهومة لدى الطرفين في الحديث عن تفاصيل ما جرى، وما هو متوقع خلال الفترة المقبلة، لكي نفهم «الصفقة» لا بد من العودة إلى جذور القضية منذ اعتقال عزام وما سبق ذلك وأحاط من ظروف.

* مصر ونتنياهو

* المشكلة بدأت في الفترة الأولى من حكم بنيامين نتنياهو في إسرائيل في يوليو (تموز) 1996، فقد كان فوزه في الانتخابات صدمة هائلة في إسرائيل نفسها وأيضا في العالم، وبشكل خاص في العالم العربي، إذ لم يتوقع أحد أن يكون رد المواطنين في إسرائيل على اغتيال رئيس حكومتهم، اسحق رابين، انتخاب نتنياهو زعيم اليمين المتطرف الذي خلق الأجواء العدائية التي ساهمت في الوصول إلى هذا القتل السياسي، وقد واجهته مصر من اللحظة الأولى بالشك وبالصدود.

ونتنياهو كان قد أدار معركته الانتخابية بروح عدائية تجاه العرب عموما ومصر بشكل خاص، فقد أعلن نظريته المشهورة التي تصدى بها لمشروع شيمعون بيرس «شرق أوسط جديد»، وفيها يقول «إن مستقبل إسرائيل في المنطقة ليس بالتفاهم والتناغم مع العرب، فهناك فوارق ثقافية وعلمية هائلة بيننا وبينهم، ونحن اليهود أقرب في ذهنيتنا وطباعنا إلى الأوروبيين والغرب عموما، وكذلك من شعوب شرق آسيا. مستقبلنا هناك، فالعرب لا يفهمون لغة السلام، خذوا النموذج المصري مثلا».

وقد جاءت قضية عزام عزام في ذلك الوقت لتعزز لدى كل طرف من الطرفين شكوكه وصدوده تجاه الآخر. والقضية أن عزام اعتقل بتهمة التجسس على مصر ومحاولة تجنيد مصريين معه، فاعتبرته مصر إعلان حرب عليها من طرف نتنياهو، وهذا بالمقابل وجدها مناسبة لمهاجمة مصر متهما اياها بأنها تختلق الذرائع للتراجع عن اتفاقية السلام بينهما. وكادت الأمور تتطور إلى مواجهة خطيرة بين الدولتين لولا تدخل الولايات المتحدة والأوروبيين. ولم تهدأ الأوضاع بينهما إلا عندما بدأ نتنياهو مفاوضات جادة مع الفلسطينيين، انتهت إلى اتفاقية الانسحاب الأول من مدينة الخليل، الذي هاجمه معسكر اليمين بسببه، وبالتالي أسقط نتنياهو عن الحكم.

لكن هدوء الوضع بين الحكومتين لم يؤثر في القضاء المصري، الذي أقام هيئة قضائية عسكرية خاصة لهذا الملف وأدان عزام بتهم عديدة، أهمها التجسس ومحاولة تجنيد مصريين.

وقد اعتمدت المحكمة المصرية في حكمها على اعترافات شريك عزام، المواطن المصري عماد اسماعيل، الذي قال إن عزام ورطه في التجسس لصالح إسرائيل وسلم المخابرات المصرية رسائل كتبت بالحبر السري على ملابس داخلية نسائية أحضرها عماد معه من إسرائيل في زيارته الأخيرة. وكان قد اعتقل في المطار.

هنا توجد أكثر من رواية حول الموضوع، فهناك من يقول إن عزام بريء، وإن المتهم الحقيقي هو شقيقه وفاء عزام، الذي كان يعمل مسؤولا كبيرا في المصنع الإسرائيلي للنسيج الذي أقيم في القاهرة، وكان حسب التهمة غطاء لعمليات التجسس. ووفاء كان برفقة عزام عندما اعتقل من أمام فندق البارون في مصر الجديدة،، وحالما غادر رجال المباحث المكان ومعهم عزام، حزم حقيبته ومن دون أن يخبر أحدا توجه إلى المطار وغادر إلى إسرائيل.

وحاولت إسرائيل بطرق غريبة التأثير في الحكومة المصرية لإطلاق سراح عزام، باعتبار انه بريء. جميع رؤساء «الموساد» بدءا من شبتاي شبيط وداني ياتوم وافرايم هليفي ومئير دجان، ورئيس المخابرات العامة الحالي آفي ديختر، سافروا إلى مصر ليقنعوا قيادتها بأن عزام عزام ليس جاسوسا، وأن هناك خطأ وقعت فيه المخابرات المصرية. عدة رؤساء ورؤساء حكومات في اسرائيل منهم عزرا فايتسمان وموشيه قصاب ونتنياهو وإيهود باراك، طلبوا إطلاق سراحه. عدة رؤساء دول من الأميركيين والأوروبيين مثل بيل كلينتون وجورج بوش والفرنسي جاك شيراك وحتى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وغيرهم، تدخلوا ولكن من دون جدوى.

وقد يفاجأ البعض حين يعلم أن المصريين كانوا مستعدين في البداية لتسليم عزام حتى قبل محاكمته، ولكن الضجة التي أثارتها إسرائيل من حوله والشخصيات الرفيعة التي دفعتها للتوسط، كل هذا جعل المصريون يتساءلون: هل يعقل أن يتجند كل هذا الحشد من الزعماء لو كان عزام واشياً بسيطاً؟ إذاً لا بد أنه جاسوس فعلا.

* الانعطاف

* الانعطاف في الموقف المصري حصل في العاشر من شهر ديسمبر( كانون الأول) العام الماضي عندما التقى وزير الخارجية الإسرائيلي سلفان شالوم مع الرئيس المصري حسني مبارك في جنيف على هامش القمة الدولية للعلوم. فطرح شالوم الموضوع، وقال إن إطلاق سراح عزام من شأنه أن يحدث انعطافا كبيرا في إسرائيل باتجاه مصر والعالم العربي والقضية الفلسطينية، وإنه سيشجع رئيس الحكومة ارييل شارون على إحداث اختراق سياسي في المنطقة. وقد أبدى الرئيس مبارك اهتماما بما سمع ووعد بأن يفحص الموضوع بجدية.

في لقاء ثان جرى بينهما في القاهرة يوم السادس من يونيو (حزيران) الماضي أخبر شالوم الرئيس المصري بأن شارون مستعد للانطلاق في خطة جديدة للانسحاب من قطاع غزة ومن منطقة مضاعفة لها في الضفة الغربية وإزالة مستوطنات وإخلاء مستوطنين، وان اطلاق سراح عزام سيساعده كثيرا في تمرير خطته، فقال مبارك هذه المرة بأنه مستعد لإطلاق سراحه وفق هذه الشروط، لكنه لم يفهم لماذا تتم هذه الخطوة من طرف واحد.

شالوم نقل الموقف المصري إلى رئيسه شارون، فقال الأخير انه مستعد للتنسيق مع مصر نفسها حول خطة الفصل وليس مع الفلسطينيين. وبدأت في الحال محادثات مصرية ـ اسرائيلية ـ فلسطينية مكثفة تم خلالها توضيح الموقف المصري بالضبط، وتجاوبت خلالها إسرائيل مع العديد من المطالب المصرية، مثل أن يكون الانسحاب من غزة كاملا، وأن يتولى الفلسطينيون زمام السيطرة على مطار غزة والميناء البحري. عندها وصل إلى مصر قائد المخابرات الإسرائيلية، ديختر في 30 سبتمبر (أيلول) وربط ما تبقى من خيوط لإطلاق سراح عزام عزام، وأبلغ المصريين بأن شارون قرر إطلاق سراح الطلاب المصريين الستة. وقد اتفق على أن يبدأ تطبيق الاتفاق في مطلع الشهر الماضي، لكن المصريين قرروا التأجيل عدة مرات بسبب الظروف، إذ تدهورت صحة الرئيس عرفات ثم توفاه الله ثم قتلت إسرائيل بالخطأ 3 جنود مصريين، ولكنهم قرروا بالتالي تنفيذ وعدهم لإسرائيل، على أمل أن تفي هي أيضا بوعودها بالنسبة للفلسطينيين، خصوصا عدم تشويش الانتخابات والانسحاب من المدن الفلسطينية قبل الانتخابات وإطلاق سراح بضع مئات من الأسرى الفلسطينيين.