دارفور.. من نزاع المراعي إلى صراع بين القوى الكبرى

TT

احتلت الأزمات السودانية المختلفة في جنوبه وغربه وشرقه موقعا بارزا في قائمة الأحداث العالمية عام 2004. وعلى الرغم من ان الحرب في الجنوب شكلت على مدى 21 عاما القضية الأساسية في السودان، وهي التي راح ضحيتها نحو مليوني قتيل، ومثلهم من المشردين والنازحين، إلا ان الامم المتحدة اختارت قضية النزاع في دارفور (غرب) لتجعلها في صدارة القضايا البارزة دولياً. ووصفت الامم المتحدة هذه القضية بانها الأسوأ إنسانياً في العالم، بعد ان تسببت في مقتل عشرات الآلاف وتشريد مئات الآلاف، بل وذهبت أبعد من ذلك بتشبيهها لها بمذابح رواندا العرقية التي أوقعت قبل عشر سنوات الملايين من الضحايا. وتنقب الأمم المتحدة مع عدد من الدول الغربية والمنظمات الدولية بشكل حثيث، عن احتمالات وجود دلائل على ارتكاب جرائم حرب او «تصفية عرقية» في اقليم دارفور الذي يشهد حربا منذ فبراير (شباط) 2003. ومن المنتظر أن تصدر تقريرا عن العنف في الاقليم قبل نهاية يناير (كانون الثاني) المقبل، سيتضمن على الأرجح أسماء مشتبهين سودانيين قاموا بارتكاب جرائم هناك. وسيحدد التقرير أيضا ما اذا كانت هذه الأعمال من قبيل الابادة الجماعية.

وفي الوقت الذي شهدت فيه الاعوام الأخيرة تراجعا كبيرا لقضية الجنوب السوداني من مواقع الصدارة بين الأحداث الأسوأ عالميا، إلا ان هذا العام شهد ايضا زخما كبيرا لهذه القضية، عادت به الى الأضواء بتوقيع اتفاقين تاريخيين; أحدهما لتوزيع ثروات الجنوب في السادس من يناير الماضي، والثاني لمشاركة الجنوبيين من الحركة الشعبية لتحرير السودان في السلطة في البلاد، في 26 مايو (ايار)، وهو الاتفاق الذي أزاح اكبر عقبة في طريق انهاء الحرب الاهلية. ولن ينتهي هذا العام قبل توقيع اتفاقية انهاء حرب الجنوب في 31 من الشهر الجاري، بعد ان تجاوز الطرفان السودانيان كافة العقبات التي تقف في طريق السلام، وتجاوزا الخلافات، وتبقت فقط مرحلة الصياغة العامة وترجمة الاتفاقية الى اللغة العربية قبل توقيعها. أما قضية دارفور، فما تزال تزاحم على موقع الصدارة في الموضوعات المثيرة للجدل دولياً، تحولت من قضية نزاع على المرعى الى صراع بين القوى العظمى في العالم، بل تفوقت احيانا على قضايا تشغل بال العالم منذ أكثر من نصف قرن، مثل القضية الفلسطينية.

ودخل الصراع في دارفور النقاش السياسي العالمي، من اوسع ابوابه وبلا مقدمات منذ بدايات العام الماضي. فلا ينعقد اجتماع في أي من اركان الارض ولا تناقش قضية او قضيتان الا كانت دارفور (ثالثتهما). وقد كانت دائما ضمن أجندة الاجتماعات الدولية في الامم المتحدة والاتحادين الاوروبي والافريقي والجامعة العربية. وأصدر مجلس الامن الدولي حولها 3 قرارات منذ مايو الماضي، بل ان المجلس المذكور ترك مقره النيويوركي الأنيق في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي ليرحل الى نيروبي قريبا من السودان ليصدر قراره الاخير حول الازمة. وهو اجراء لا يقوم به الا نادراً وقد حدث 3 مرات فقط منذ عام 1952. وكانت هذه القضية ايضا محل سجال سياسي في الانتخابات الاميركية وإحدى اهم القضايا العالمية المثارة في المناظرات التي عقدها مرشحا الرئاسة الاميركية الاخيرة بوش وكيري، بل واحتلت المرتبة الثانية بعد قضية العراق.

لم تنل دارفور هذه الحظوة الدولية من فراغ، بل لأنها كانت أسوأ مثال للإهمال السياسي في السودان منذ عقود. ولم تكن هذه القضية وليدة العام الماضي كما يؤرخ لها، ولكنها ظلت نارا تحت رماد منذ استقلال السودان عام 1956. يقول احمد دريج اول حاكم لاقليم دارفور بعد الاستقلال، ان دارفور التي كانت سلطنة اسلامية مستقلة عن السودان حتى بدايات القرن الماضي، حرمت من مشاريع التنمية إبان وبعد حقبة الاستعمار البريطاني عقابا لمواقفها المؤيدة لألمانيا في الحرب العالمية الاولى، في وجه الانجليز. وبعد انتهاء الحرب ضمها الانجليز الى السودان عام 1917، وعاقبوها بالحرمان من اقامة المشاريع التنموية التي انتظمت في كل السودان ماعدا دارفور. ويمضي دريج قائلا ان الخطأ تكرر بعد خروج المستعمِر من البلاد، حيث خطا السياسيون السودانيون على طريق المستعمر وقاموا بتنفيذ المشاريع المخططة أصلا من قبل الانجليز، وتجاهلوا دارفور مرة أخرى، لتعيش المنطقة فترة اخرى من التهميش أدت الى نشوب النزاعات التي بدأت كعمليات «نهب مسلح» وانتهت الى «حركات تحرير».

وتعتبر دارفور «افريقيا مصغرة» بمشاكلها وتنوعها الثقافي والعرقي، وقد عرفت طوال تاريخها بالصراعات القبلية على المرعي والأرض ومصادر المياه، وساعد ذلك على انتشار التقاليد القبلية مثل ما يعرف في السودان بـ«الهمبتة» وهي شكل من اشكال «النهب المسلح» تتباهى به بعض القبائل هناك، فضلا عن ثقافة الفروسية التي تسود منذ عهود في الاقليم، ولكن ـ حسب الشيخ اسحق محمد هارون أحد المشايخ المخضرمين في المنطقة وينتمي الى قبيلة الفورـ فان تلك المشكلات كانت تحل دائما عبر «الجودية»، وهي مجالس أهلية لحل المشكلات بين المواطنين في دارفور. ويقول اللواء آدم حامد والي جنوب دارفور ان النزاعات القبلية في الآونة الاخيرة تفاقمت بسبب انتشار الأسلحة في الولاية عبر الحدود الغربية، غير ان المتابعين بدقة لهذا الملف يحملون الحكومات السودانية منذ حكومة الصادق المهدي 1986 وحتى 1989 وصولا الى نظام الإنقاذ مسؤولية التدهور الحالي للاوضاع فى دارفور «لأن هذه الحكومات عمدت الى تزويد بعض القبائل بالسلاح لتكوين مليشيات محلية تهدف الى منع متمردي الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب، من مد نفوذها او مسرح عملياتها الى غرب السودان غير ان هذه القبائل استخدمت هذه الاسلحة فيما بعد في صراعها مع القبائل الاخرى حول المياه والمرعى». ويتهم حاكم ولاية شمال دارفور عثمان كبر جهات لم يحددها باستغلال احتكاكات الرعاة والمزارعين في الاقليم لاغراض خاصة، لكن اللواء ادم حامد يرى ان من اسباب تفاقم المشكلة في دارفور هو انتشار السلاح وضعف التعليم. وقال: «لو وجدت دارفور طريقا واحدا يربطها بالوسط لما ظهرت هذه المشكلة». ولفريق آخر رأي مغاير حيال اسباب المشكلة، اذ يردها الى النزاعات الدولية ومحاولة تقسيم افريقيا بين المعسكرات الغربية، واشاروا الى مؤتمر برلين 1884 ـ 1885 وهو المؤتمر الذي نظم استلاب الموروث الافريقي بكامل أرضه، وإعادة تقسيمه على أسس جديدة وفق أطماع المستعمر الجديدة، وبرؤية استغلال موارد البلاد». ويشيرون في هذا الخصوص الى ان المؤتمر قرر فيما بعد ان تصبح دارفور ضمن الممتلكات الفرنسية. لكن دارفور رفضت الاستعمار الفرنسي وقاومته، لكنها سقطت عسكرياً لمدة سبع سنوات تحت إدارة الحكم التركي المصري. ويفسر مثقفون من دارفور عودة المصالح الاوروبية الى دارفور، لغنى الاقليم بالموارد المعدنية، وواضح ذلك في التنافس الشديد بين باريس وواشنطن. وتوشك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على الدخول في مواجهة جديدة بمجلس الأمن الشهر المقبل حول الإقليم السوداني، ويقول آخر التقارير ان معركة شرسة وشيكة ستندلع في مجلس الأمن بسبب اختلاف الآراء حول الملاحقة الجنائية لمرتكبي الفظائع في دارفور. وبينما يرى الأوروبيون ضرورة محاكمة المتهمين، أمام المحكمة الجنائية الدولية الجديدة في لاهاي، ترفض واشنطن هذا الاتجاه لأنها لا تعترف بالمحكمة الجديدة، خوفا من ان تطال الملاحقات جنودها في العراق. ومن المتوقع ان تعرقل الولايات المتحدة أي إجراء لإحالة القضية من مجلس الأمن الى المحكمة الدولية، وهو ما لن يترك امام المجلس، الكثير من الخيارات. كما سيعارض الاوروبيون تشكيل محكمة خاصة بهذه القضية مثل تلك التي شكلت للنظر في مذابح يوغوسلافيا السابقة ورواندا ما دامت المحكمة الجنائية الدولية قد أنشئت لهذا الغرض. ومع الاختلاف الشديد بين الاطراف الغربية سيكون أمام المجلس القليل من الخيارات لاتخاذ إجراء ضد السودان في ظل معارضة شرسة من كل من روسيا والصين، حول فرض عقوبات على الخرطوم.