دفاتر أطفال العراق

سأرسم لكم ماما.. سأرسم لكم عصفورة.. سأرسم لكم دخول الدبابات إلى بيتي

TT

عصفورة، زورق في بحر، شجر، منزل ملون، طريق طويل تقف في نهايته دبابة أو سماء تحلق فيها طائرة عسكرية. هذا ما يرسمه أطفال العراق في دفاتر رسمهم المدرسية لكي يبسطوا نفوذ طفولتهم على هلع الحرب. ماذا فعل جحيم الحرب بأطفال العراق؟ لا أحد يدري على وجه الدقة. فوسط نيران الحرب المشتعلة لا يمتلك أحد ترف الوقت للمراقبة والملاحظة. والأسر وأساتذة المدارس ليس لديهم من سعة الوقت والصدر ما يساعد على إطالة السؤال حول حال أطفالهم وتلاميذهم. فالسؤال المخنوق بفعل التوتر والخوف يقتصر على كلمتين. والإجابة المخنوقة بفعل العزلة وعدم استيعاب كل ما يحدث تقتصر على كلمتين. غير ان دفاتر رسم أطفال العراق تدل على ما فعلت الحرب بأطفالها، وما فعلت الطفولة مع الحرب. في مدرسة «ذات الصواري» ببغداد كانت إسراء تجلس بعيدة عن الأنظار، أخذت بين أصابعها الصغيرة احد الأغصان المتساقطة على الأرض وبدأت بالرسم. رسمت زورقا في بحر ووجه فتاة. وعندما سألت إسراء عن الفتاة، قالت انها ترسم نفسها. رسمت إسراء أشياء كثيرة لكنها لم ترسم أي شيء يدل على الحرب أو الدبابات التي تمر كل يوم أمام منزلها أو مدرستها. هدى وليد التقيت بها وهي تغادر مدرستها، جلست الى جانبها على ناصية الشارع المهدم. ووضعت ورقة كبيرة على حقيبتها المدرسية، وطلبت منها رسم صورة. ضمت هدى كتفيها الى بعضهما رافضة. ورددت قائلة «أنا أخاف من الحرب وسأرسم لكم شجرة، سأرسم لكم ماما.. سأرسم لكم عصفورة». لكن صوت عجلات سيارة مسرعة أوقف مشروع الرسم. فوالدة هدى جاءت لتأخذها الى البيت. لا احد يستطيع ان يطمئن على أطفاله في مدينة يملؤها الغرباء والمسلحون. سما طفلة متوقدة الذكاء وقد دخلت المدرسة قبل ان تبلغ السادسة من العمر كمستمعة للدروس. ومنذ سن الرابعة وهي تتفوق على من يكبرنها في العمر. تقول سما انها تحب رسم كل الوجوه التي تظهر على شاشات التلفزيون، وتحب رسم عارضات الأزياء، وهي أيضا تحب ان تصحح لزميلاتها اخطاءهن الاملائية، وستبقى ترسم الى ان تصبح لديها كتب كبيرة عن الرسم.

اما محمد طه فهو يحب الكتابة أكثر من الرسم. ويقول محمد «أحب ان أدون كل شيء. وقد دونت مثلا دخول الدبابات الى العراق، ورسمت احداها لأنها كانت قريبة من بيتنا. وكتبت عليها في هذا اليوم، وفي هذا العام، وفي هذه الساعة دخلت دبابات ومدرعات وجنود اميركان الى العراق.. ولا ادري لماذا». قال الصغير، الذي بدا لي كبيرا جدا، ان العالم كله سيكتشف من خلال ما يكتبه كل الأشياء التي حدثت ولم ينتبه إليها احد. وعندما طلبت منه نموذجا من هذه الكتابات، قال: «هذا لا يجوز.. فأنا اكتبها للتاريخ». أذهلتنا إجابة الصغير وكيف ان الحرب قد أضافت عمرا آخر على عمره، وأصبح من دون ان يشعر يفكر بما سيقوله للتاريخ.

في مكان آخر كانت همسة ترسم شيئا آخر، فهي تعشق الطيور ولا ترسم غيرها ابدا. وتقول ان لديها طيورا في البيت. سألت همسة ان كانت تجيد رسم دبابة او مقاتل فقالت: «لا». لكن زميلتها في نفس المدرسة قالت ان والدها كان مقاتلا في الجيش وكان يرتدي ملابسه العسكرية، لذلك فهي تحب رسمه والبندقية في يده. وما زالت ترسم والدها بنفس الملابس حتى بالرغم من انه لم يعد في الجيش.

جاءت الحرب في رسومهم أو لم تجئ، يحمل أطفال العراق المشاعر نفسها. فهم كلهم يشعرون انها كابوس مرعب، ويحاولون من خلال مسارات حياتهم العادية ان «يبسطوا نفوذ طفولتهم» على الحرب وصورها التي حفرتها في ذاكرتهم وسلبتهم لحظة هدوء. سماح أحمد، التلميذة في المدرسة الابتدائية، تحمل ملامح جنوبية جميلة، كانت تلعب مع الصغار في الزقاق القريب من بيتها. عندما اقتربنا منها تراجعت الى الوراء، الاحساس بالخوف تغلب على ملامحها، لكن عندما شعرت بالأمان، قالت انها ترسم دائما صورة والدتها التي قتلت في البصرة اثناء الحرب التى بدأت فى مارس (اذار) الماضى. وأضافت انها عندما جاءت الى بغداد بدأت ترسم صور الجنود الاميركيين وهم يتجولون بأسلحتهم في شوارع بغداد. سماح التي تبدو خائفة أكثر من أي طفل قابلناه تسكن مع خالتها بعد مقتل والدتها.

التلميذ مثنى قادر دخلنا عليه وهو يرسم وجها جميلا لطفلة صغيرة والى جانبها باقة ورد وفي الجانب البعيد منها امرأة عجوز. سألناه عن لوحته فقال «انها لشقيقتي وجدتي اللتين احبهما كثيرا وعندما اصبح كبيرا سأبني دارا كبيرة فيها حديقة مملوءة بالورد كتلك الموجودة في اللوحة». الصغير اياد عبد الخالق كان يحمل في حقيبته اوراقا كثيرة، لدى توجهه الى «دار ثقافة الاطفال». ويقول اياد انه يكتب قصصا للاطفال ويتمنى نشرها في «مجلتي» او «المزمار». في «دار ثقافة الأطفال»، قال لنا رئيسها الدكتور شفيق المهدي ان الدار عادت للحياة فى ابريل (نيسان) عام 2003. وانها كانت خاوية عند تسلمها، وكانت مهمة إعادة التأسيس شاقة جداً اذ لا توجد ميزانية تكفي والجهاز الوظيفي من المنتسبين في معظمه غير مكترث، فقد أصيب الجميع بالخيبة. وتابع «كانت رحلة شاقة استطعنا خلالها إصدار مجلة «المزمار» و«مجلتي»، بالإضافة الى إصدارات أخرى بالاتفاق والتعاون والدعم المادي من منظمة «اليونيسيف». وقال ان هناك عشرة كتب للأطفال تحت الطبع بعد إنجاز التصاميم الخاصة بها وهي لكتاب وشعراء عراقيين، ومنهم أحد مؤسسي الدار الكاتب ماك المطلبي. كما قال ان الدار باشرت في تشكيل فرقة مسرحية وهي فرقة «العائلة السعيدة» ولها عروض مسرحية داخل العراق، واستطاعت في خطوة أولى ان تشترك في المهرجان السابع لمسرح الطفل العربي في عمّان. وتابع ان «الدار شاركت في اثني عشر مهرجاناً مسرحياً، وهو رقم قياسي وقد قمنا بتقديم هذه العروض في أماكن مختلفة وفي قاعات نستطيع ان نجمع فيها أكبر عدد من الأطفال وخصوصاً طلبة المدارس. وكانت عروضنا في المسرح الوطني ومسرح الطليعة والمستنصرية وهذه امكنة واسعة، يمكننا خلالها تقديم مئات العروض للأطفال وتوزيع المجلات الخاصة بالأطفال وبأسعار رمزية». الطفل علي أسعد لا يعرف الرسم، ويقول انه حتى لا يحب الحصص الفنية. ولكن ان طلب منه رسم أي موضوع فسيرسم حديقة بيته التي يحبها كثير، او سيرسم الصور التي بقيت في ذاكرته من الحرب. قال علي «ذات يوم سأقول لأحد الفنانين الكبار أن يرسم صورة الصاروخ الذي وقع من احدى الطائرات ليصيب ثلاث بيوت قريبة من بيتنا، في نفس الوقت الذي دخل فيه والدي ليقول ان زملائه في الجيش قالوا له ان يعود الى بيته لأن الحرب ليست لصالح الجيش»، الكبار اذا يشكون لأطفالهم مرارة الحرب وقطع العيش.