فرنسا والولايات المتحدة ومذهب الأمن اللبناني

TT

عقب الحرب الاهلية، عام 1860، أنشأت كل من بريطانيا وفرنسا والنمسا وبروسيا مفوضية دولية كان فؤاد باشا ممثلا فيها عن الحكومة العثمانية للتوصل الى حل بشأن قضايا جبل لبنان. وعقب مداولات مطولة جرى التوصل الى ترتيبات انشأت بموجبها متصرفية جبل لبنان ومنحت حماية غربية. كان يحكم هذا الكيان حاكم عثماني مسيحي بمساعدة مجلس اداري مكون من ممثلين لمختلف الجاليات. وأطلق المؤرخون على الحكم الذاتي والحماية الغربية التي تمتع بها لبنان خلال تلك الفترة وحتى بداية الحرب العالمية الاولى «السلام الطويل».

وكانت التجربة ملهمة للنموذج الذي ساهم في تشكيل الدولة اللبنانية الحديثة حيث اصبحت الحماية الغربية ركيزة في السياسة الخارجية اللبنانية. وجرى تعليق هذا الوضع خلال الحرب العالمية الاولى، وأعقبت ذلك فترة حصار ومجاعة دفعت الكثير من أفراد النخبة اللبنانية الى مغادرة البلاد، وكانت مدينة الاسكندرية فى مصر واحدة من الوجهات الرئيسية. وتأثر هؤلاء بازدهار الاسكندرية وجوها العام المشرقي الطابع كنقطة التقاء بين الشرق والغرب فضلا عن تمتعها بقدر من الاستقلالية. ووفرت الاسكندرية لأفراد النخبة اللبنانية المهاجرين نموذجا ثانيا لاتباعه لدى عودتهم بعد الحرب العالمية الاولى وتشكيل دولة لبنان الجديد. لذا شكل التعايش واقتسام السلطة والتنوع والحماية الغربية عناصر الدولة الجديدة عند تكوينها. وكانت الحماية الغربية حتى الحرب العالمية الثانية تعني فرنسا وبريطانيا العظمى، إلا انه اتضح خلال الحرب العالمية الثانية ان هاتين القوتين العظيمتين بدأتا في الانهيار والتراجع وأن الولايات المتحدة باتت هي القوة الناشئة الجديدة. وقد ظلت النخبة اللبنانية تتابع ذلك عن كثب وتعكس ذلك افتتاحيات ميشيل شيحة، المهندس الرئيسي للنظام اللبناني وسياسته الخارجية. وبعد وقت قصير من الاستقلال توصلت المؤسسة اللبنانية الى انها في حاجة الى بناء صلات افضل مع الولايات المتحدة الاميركية. فاختير لهذه المهمة تشارلز مالك، الذي ارسل الى هناك لتمثيل لبنان لدى واشنطن ولدى الامم المتحدة على السواء. اصبح مالك شخصية بارزة وأشرك الولايات المتحدة في الشأن اللبناني. وصلت تلك الجهود الى قمتها في الحماية الاميركية على لبنان والتدخل الاميركي هناك عام 1958 . ميشيل شيحة وتشارلز مالك كانا المهندسين الرئيسيين للسياسة الخارجية للبنان وتحالفه مع الغرب وكل الوزراء الذين تولوا حقيبة الخارجية اللبنانية خلال الفترة من 1943 حتى 1984، باستثناء فترة وجيزة بعد عام 1958 عندما شكلت حكومة طوارئ إما من أتباع ميشيل شيحة او تشارلز مالك، وبذلك ظل هذا التوجه هو الغالب في التفكير الخاص بالسياسة الخارجية. وأضافت أزمة 1958 بعدا اقليميا مهما آخر الى الصيغة. فقد بات من الواضح ان الحماية الغربية لم تكن كافية لضمان الاستقرار الداخلي للبلاد، وبعد انتهاء أزمة 1958 مباشرة التقى الرئيس فؤاد شهاب مع الرئيس جمال عبد الناصر وتوصل الى معاهدة معه. وكانت مصر في تلك الفترة تشكل التهديد الاقليمي الرئيسي للاستقرار الداخلي للنظم التي لا تتفق مع الرؤية الايديولوجية الناصرية، وكان ذلك وسيلة لتحييد التهديد وكذلك تجاوز بعده الداخلي. وجرت موازنة النفوذ المصري عبر قوى اقليمية اخرى مثل المملكة العربية السعودية وسورية والعراق والأردن. وهكذا ظهر مذهب أمن لبناني اعتمد على الدبلوماسية بدلا من القوة العسكرية، اذ كان الجيش يعتبر تهديدا للاستقرار الداخلي في منطقة اصبحت الانقلابات العسكرية ظاهرة مألوفة فيها. وكانت العناصر الثلاثة الرئيسية في المذهب الأمني اللبناني عامل موازنة بين الحماية الغربية، ومعاهدة توازن مع التهديد الاقليمي من جانب قوى عربية أخرى. وسمحت هذه الصيغة للبلد بالبقاء على هامش النزاعات الرئيسية للمنطقة ومتابعة أجندتها الكوزموبوليتية. وتكرر هذا في وقت لاحق أيضا أخذاً بالحسبان التغيرات في توازن القوى الاقليمي والدولي. وهكذا ففي أوقات مختلفة أصبحت المملكة العربية السعودية والعراق ومنظمة التحرير الفلسطينية وسورية الشريك الرئيسي في المنطقة.

بدأ هذا النظام يظهر تصدعات ولكنه بقي حتى بداية الحرب الأهلية الى ان انهار في أواخر عام 1983 مع «اعادة انتشار» القوات الأميركية والقوات المتعددة الجنسية من بيروت في أعقاب الهجوم على ثكنات المارينز ببيروت. وكانت اعادة الانتشار هذه انهيار سياسة أميركية تمثلت أجندتها، بالتوافق مع الغزو الاسرائيلي عام 1982، في التخلص من منظمة التحرير الفلسطينية واقامة دولة لبنانية قوية يمكن أن توقع اتفاقية سلام مستقلة مع اسرائيل أو اتفاقية 17 مايو (ايار) 1983 . وبالغت الولايات المتحدة في مد يدها وإحراق أصابعها والتخلي عن اللعبة. وكان هذا يعني، بالنسبة للبنان، أيضا اخفاق وغياب الحماية الغربية التي كانت الى هذا الحد أو ذاك سمة ثابتة منذ الاستقلال. ولم يكن بالوسع ملء الفراغ الذي خلقه ذلك الانهيار الا من جانب سورية التي لم يكن ممكنا موازنتها منذئذ الا عبر قوى اقليمية. وكان تاريخ السنوات الأخيرة من الحرب الأهلية متسما بالدور الكبير الذي لعبته القوى الاقليمية، مثل العراق والمملكة العربية السعودية والأردن، في مسعى لموازنة النتيجة الحتمية للهيمنة السورية الكاملة على لبنان. وبلغ هذا ذروته في انهيار النفوذ الاقليمي خلال حرب الخليج الأولى عندما جرى تحييد العراق، وهو لاعب رئيسي ضد سورية على الجبهة اللبنانية، وكانت السعودية والمجتمع الدولي بحاجة الى سورية من أجل تحالف حرب الخليج. ومنذ ذلك الحين كان لبنان تحت الهيمنة السورية وفقد قدرته الاستراتيجية على المناورة. وفي غضون ذلك بدأ رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، المقيم بين باريس والمملكة العربية السعودية، العمل على إعداد رؤيته لإعادة اعمار لبنان. وتضمنت هذه الرؤية العناصر الرئيسية الثلاثة لمذهب الامن اللبناني. وبالتنسيق بين سورية والمملكة العربية السعودية توصل الى اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية. وفي الوقت نفسه كان يعتزم استعادة بيروت كمركز كوزموبوليتي في المنطقة. وفي وقت لاحق اصبح رئيسا للوزراء وبالتالي جسد قوة توازن اقليمية، وخصوصا سعودية، مقابل الهيمنة السورية التي تعاون معها ولكن ذلك كان في تقاطع مع أزمات مستمرة. وكان مؤتمر باريس الثاني المنعقد في نوفمبر (تشرين الثاني) 2002 هو استعادة الصيغة وان يكن على الجبهة الاقتصادية غير واسعة النفوذ. وقد جمعت معاً، تحت رعاية الرئيس الفرنسي جاك شيراك، قوى دولية واقليمية وفرت أموالا كبيرة لمساعدة لبنان على الخروج من أزمته الاقتصادية التي كان لها ان تؤدي باقتصاده الى الانهيار. وكان العامل الأساسي في الأجندة الاقتصادية هو الأمن لمنع حدوث انهيار اقتصادي يمكن ان يؤدي الى زعزعة استقرار لبنان. وبعد الأزمة الأخيرة مع سورية بشأن تمديد ولاية الرئيس اميل لحود كان رئيس الوزراء الحريري فاعلاً في التوصل الى قرار مجلس الامن رقم 1559 والذي رعته فرنسا والولايات المتحدة بدعم حذر من قوى عربية اقليمية بينها السعودية ودول الخليج. ومن الناحية الرمزية كان قرار مجلس الأمن 1559 جزءا لا يتجزأ من جميع المساعي التي بلغت ذروتها والتي ظل رئيس الوزراء الحريري يعمل اجلها خلال السنوات العشرين الماضية. ان أجندة الحريري المتمثلة في اعادة دور بيروت كمركز كوزموبوليتي للمنطقة، واستعادة التعايش والتسوية داخل البلاد، وتنشيط المذهب الامني للحماية الغربية، مع توازن قوى اقليمي، الذي انهار عام 1983، هذه الأجندة بكل جذورها التاريخية كانت هي الهدف وراء اغتياله الوحشي يوم الرابع عشر من الشهر الجاري.

* مدير مركز الدراسات اللبنانية في جامعة اكسفورد البريطانية