فبراير «الأسود» الأميركي

TT

كان عادة ما يُنظر إليها على أنها امرأة بسيطة مسالمة لا تستطيع فعل شيء يستحق الذكر، لكنها فاجأت الكثيرين وبدأت واحدا من اوائل مظاهر الاحتجاج الاجتماعي ضد التمييز العنصري في الولايات المتحدة. هذه هي روزا بارك التي رفضت فى عام 1955 أن تتخلى لرجل ابيض عن مقعدها في إحدى الحافلات، في ولاية ألاباما حيث ولدت في عام 1913، كما كان العرف السائد وقتها. فمن امرأة تعمل لجمع قوت يومها في محل للحياكة إلى قائدة ورائدة في الدفاع عن الحقوق المدنية للسود، واذا أضفت الى ذلك كونها امرأة، فإن ذلك يشير إلى شجاعة خاصة تحلت بها روزا بارك. فنضال المرأة في ذلك الوقت كان عسيراً، لأنه كان نضالاً ذا وجهين، الأول للتحرر من قبضة النظام العنصري. والثاني نضال النساء من اجل المساواة. وخلال فبراير (شباط) الجاري تذكر الاميركيون روزا بارك خلال احتفالاتهم السنوية بـ«شهر التاريخ الاسود»، الذى يعقد فى فبراير من كل عام. ولا تقتصر حركة الحقوق المدنية للسود في أميركا على دور بارك وحدها، فقد ولّد النظام العنصري الذي كان يُمارس ضد السود، ناشطين وناشطات يصعب إحصاؤهم وتعداد إنجازاتهم. فلمدة طويلة من الزمن تمتد إلى عدة قرون، لا سيما منذ القرن السابع عشر، حيث تاريخ وصول السود في إطار تجارة العبيد ونقلهم من بريطانيا واسبانيا وغيرهما من الأماكن إلى الولايات المتحدة الأميركية، حتى تقريباً أواخر الستينات من القرن العشرين، برزت خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة أسماء كثيرة. من بينها فردريك دوغلاس، الذى ولد في شهر فبراير عام 1818 كعبد. حيث كان الإنسان الأسود عبداً بالولادة تبعاً للنظام السائد في ذلك الوقت، ولا يتمتع بأي حقوق مدنية أو اجتماعية أو سياسية او غيرها من الحقوق الأساسية. وهكذا فقد اشترى دوغلاس «سيد» يدعى لويد، وتمت معاملته على أنه سلعة خاصة بالدولة، لكن يقظة دوغلاس وتعليمه الذاتي، إذ عادة ما كان يخلو بنفسه ويحاول أن يقرأ كل ما يقع في يديه، قاداه إلى النضال ضد «سيده»، وهروبه بعد ذلك إلى إحدى الولايات المجاورة. ولاحقا برز اسم فردريك دوغلاس بعد أن أصبح ينادي بحقوق السود ومساواتهم مع السكان البيض. كما كان لسفره بعد ذلك إلى إنجلترا وايرلندا تأثير كبير عليه، حيث أدرك أن إنسانية الإنسان هي فوق كل شيء، ويجب ألا تسلب تحت أي مسميات. لذلك عند عودته إلى الولايات المتحدة الأميركية استمر في نضاله ضد العنصرية. وتدرج في مناصب عديدة، كان مغزاها جميعاً الكفاح من أجل الحقوق المدنية للسود.

هناك شخص آخر لا يقل أهمية عن دوغلاس، هو الدكتور كارتر جود ودسون. فقد ولد ودسون عام 1875 في ولاية فرجينيا، من عائلة عانت فقرا شديدا، إلا انه بالرغم من ذلك حرص على التعليم، وحصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة شيكاغو. ولاحقا درس في جامعات عديدة في الولايات المتحدة الأميركية، وسافر لعدة اماكن اكتسب تجربة غنية من خلالها. ولكن نقطة التحول في حياته كانت تكريس اهتمامه من اجل الدفاع عن حقوق السود. وتمثل ذلك من خلال تخصيصه اسبوعا من شهر فبراير في كل عام من اجل تعليم تاريخ السود في اميركيا. برزت بعد ذلك اسماء عديدة فى تاريخ كفاح السود من اجل حقوقهم المدنية، كان اشهرها مالكوم اكس ومارتن لوثر كينج. فعلى الرغم من اختلاف كل من مالكوم اكس وكينج حول كيفية النضال في مرحلة حاسمة من تاريخ الاميركيين السود في الخمسينات والستينات على وجه الخصوص، إلا انهما لعبا دورا حاسما ومميزا في تاريخ هذه الحركة.

ولد مالكوم اكس عام 1925، وعاش مالكوم الذي كان يعرف بمالكوم الصغير حياة صعبة وقاسية، حيث توفي والده وهو في سنين عمره الأولى. وتعرض وعائلته الى تهديدات كبيرة وصل اقساها الى حرق بيته في ولاية ميتشيغان، حيث كان يقطن. ونتيجة لهذه الحياة الصعبة التي تعرض لها، تعاطى مالكوم المخدرات وكان عادة ما يوسم بالغلام الشقي الذي لا يقيم وزنا ولا احتراما للآخرين، لكن ذلك سرعان ما تغير، فقد تم سجنه وأثناء مكوثه المضني في السجن تعلم مالكوم الكثير عن تاريخ كثير من الشعوب وعن الأديان أخرى، ونتج عن ذلك اعتناقه للاسلام، ومن ثم ذهابه الى الحج بعد ان خرج من السجن عام 1952، واصبح يعرف بالحاج محمد. وبعد خروجه من السجن، تفرغ مالكوم للدفاع عن الحقوق المدنية للسود. وقد تبنى منهجا مغايرا عن ذلك التي تبناه مارتن لوثر كينج، اذ رأى أنه لا يمكن ان يكون النضال سلميا ضد المعتدي، لكن حياة مالكوم انتهت عندما تم اغتياله اثناء القائه خطابا في ولاية نيويورك في عام 1965.

أما مارتن لوثر كينج، الذي اصبح يعرف بعد ذلك بأبو الحقوق المدنية للسود في اميركا، فقد ولد في ولاية جورجيا عام 1929، وحصل على درجات علمية رفيعة إلى ان نال درجة الدكتوراه في علم الثيولوجيا من جامعة بوسطن. ومنذ صغره كان والده عادة ما يقول له «أنت إنسان جيد مثلك مثل أي إنسان آخر». وفي ظل هذه التربية ورؤية القسوة التي كان يعامل بها السكان السود في أميركا، انخرط كينج في حركة الحقوق المدنية للسود، وأصبح من أبرز الناشطين فيها وأصبح خطيباً وواعظاً شعبياً كبيراً، لا سيما بعد خطابه الشهير عام 1963: «أنا لديّ حلم». وكان لأفكار غاندي في الهند، أثر كبير على كينج، فقد كان سلمياً ودعا إلى السلم في الكفاح ضد الظلم والعنصرية. وتمثل الإنجاز الأكبر في عهد مارتن لوثر كينج، في صدور القانون الذي ينص على إنهاء النظام العنصري في أميركا، ذلك في عام 1964، لكن مصير مارتن لوثر كينج لم يختلف عن مصير مالكوم اكس، حيث تم اغتياله في عام 1968، بينما كان في زيارة إلى أحد الاحياء الفقيرة يدعو إلى إعطاء العامل الأسود الأجر نفسه الذي يعطى للعامل الأبيض. كان ثمرة سنين طويلة من النضال أن وصل كثير من السكان السود في الولايات المتحدة، إلى مراتب عليا في مناح مختلفة من الحياة. من بينهم وصول كولن باول إلى ما يشبه قمة الهرم السياسي في الولايات المتحدة الأميركية، حيث أصبح وزيراً للخارجية الأميركية في الفترة الأولى من عهد الرئيس الأميركي الحالي جورج بوش وتبعته بعد ذلك كوندوليزا رايس. وهكذا بعد عقود طويلة من الكفاح من أجل الحرية والمساواة، وصل السكان السود في الولايات المتحدة إلى درجات متقدمة ومكانة مرموقة، كما كان نضالهم يهدف منذ البداية.

أيضاً من بين الأسماء التي حظيت بمكانة كبيرة في تاريخ حركة الحقوق المدنية القس جيسي جاكسون، حيث شارك في العديد من التظاهرات ضد العنصرية في الولايات المتحدة، بينما كان طالباً. كما كان له دور كبير في تأسيس منظمة «وحدة الناس من أجل إنقاذ الإنسانية»، وهي منظمة نادت باعتماد الأميركيين من أصل افريقي على أنفسهم. اسم آخر يستحق الذكر لمساهمته الكبيرة في حركة الحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة، هو اندرو تونغ، فقد كان مساعداً كبيراً لمارتن لوثر كينج خلال تاريخ هذه الحركة. وقد عينه الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر سفيرا للأمم المتحدة عام 1977 اعترافا بجهوده.