التوترات الأردنية ـ العراقية: إرث من احتقانات الأمس «يثقل» علاقات اليوم

زهير المخ

TT

ليس الكلام عن العلاقة بين العراق والأردن سهلاً والأنظار كلها مشدودة نحو التوترات والشكاوى العراقية، الشيعية خصوصاً، من أعمال إرهابية ترى دوائر في بغداد انها أردنية المصدر، قد تعيد تحديد هذه العلاقة. وربما يعود هذا التعقيد إلى عوامل متفاوتة الشدة، لعل الأبرز من بينها الذاكرة الجريحة للعراقيين من ميراث تحالف عمان ـ بغداد في عهد صدام حسين، التي تمنع ترجمة التواصل بين العاصمتين، فيبدو أي «تطبيع» في العلاقة وكأنه محاولة نافرة واستثنائية في مغزاها والمعنى. وفي منظار تاريخي أبعد مسافة، يتساءل المرء عن إمكانية رسوخ هذه العلاقة، بالنظر إلى الآلام التي تعتصر قلوب العراقيين، في أن تكون متوترة. من هنا التخبط المضني في العلاقة بين عمان وبغداد التي تبدو «طبيعية» بالنظر إلى العناصر الموضوعية، و«متوترة» بالنظر إلى هشاشة العلاقات الثنائية بين الطرفين.

وفي تحديد العلاقة العراقية ـ الأردنية وفي تصور تطورها المقبل، يقتضي التذكير بمنطلق الاحتقان المصابة به. ويسهل طبعاً إيراد الأمثلة العديدة الدالة على ذلك. ظاهرياً تبدو عمان وكأنها تختال بخطاها المستقرة، بينما تلهث بغداد وراء أنفاسها في ارتباك وتردد. أما عملياً، فعمان قلقة من اتساع دائرة الاحتقان في الشارع العراقي، لأن هدفها ليس إضافة مصدر جديد لزعزعة الاستقرار الأمني في العراق، وإنما هو خطب ود الحكومة العراقية لوضع أسس علاقة إيجابية ومتينة.

المؤشرات القائمة، حتى اللحظة على الأقل، كانت وما تزال تدل على أن الطرفين العراقي والأردني لم يصلا بعد إلى مرحلة القرار، وهما مستمران في جس النبض واستكشاف الأجواء ومراجعة الحسابات على مختلف الصعد في انتظار أحد أمرين: إما تنفيس الاحتقان القائم في العلاقة، أو حصول تطورات جديدة من شأنها بلورة صورة الموقف أكثر، مما يسهّل عليهما اتخاذ القرارات الصعبة في ضوء المستجدات.

وما يمكن أن يقال هنا إن نقاط التقاطع والافتراق في سياسات الفريقين، العراقي والأردني، تبدو اليوم ذات أبعاد ثلاثة: فثمة رغبة أردنية غير معلنة بالمشاركة في أي ترتيبات سياسية للبيت العراقي، يقابلها وضع عراقي ما يزال ملتبساً ومضطرباً. أما البعد الثاني، فهو استراتيجي، سبق للعاهل الأردني قبل أشهر في التحذير من انبثاق «هلال شيعي» على ما قد يبدو نزاعاً ضمنياً بين سنية أردنية وشيعية عراقية. وثالث هذه الأبعاد طبعاً هو البعد الاقتصادي. وعلى الرغم من أهمية هذه الأبعاد الثلاثة، يصعب على المراقب أن يتجاهل ما يمكن تسميته بـ «الإرث الثقيل» في العلاقة الأردنية ـ العراقية. منذ عهد الملك عبد الله الذي كان قد عرض فكرة إقامة وحدة أردنية ـ عراقية تحت زعامته، ولكن لم تصل محادثاته مع الأسرة المالكة في العراق سوى الى تحقيق ما هو أكثر من معاهدة صداقة وتحالف، وظلت حدوده الشرقية قيد الدرس، طارحة باستمرار وبدون حل حقيقي في الأفق مشكلة شائكة هي علاقة الأردن بالعراق.

في الخمسينات بدأت معركة الأحلاف في المنطقة بعد أن توجه العراق إلى دخول «حلف بغداد»، فيما واجهت عمان فكي الكماشة: فمن جهة، كان هنالك الضغط البريطاني لدفعها في الحصول على بطاقة عضوية في الحلف، ومن جهة أخرى كانت مصر الناصرية تدفع بها بالنأي عن المشاركة في الحلف، الأمر الذي أجبر الملك حسين أن يتبنى خط القاهرة، فوقعت حكومته في أكتوبر (تشرين الأول) 1956 معاهدة دفاع مشترك معها. لكن التأرجح ظل صفة ملازمة للسياسة الأردنية، إذ لم يدم الوقت طويلاً حتى شعرت القيادة الأردنية بأنها مستهدفة في وجودها من الحليف الذي صاغت للتو معاهدة دفاع مشترك معه. وكانت محاولة الانقلاب العسكري في 1957 بمثابة جرس إنذار للخطر المحدق بها فسعت سريعاً إلى الميل مرة أخرى إلى الجار العراقي بإقامة اتحاد بين الدولتين وأعلنت تأييدها لمبدأ الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور.

كان انقلاب يوليو (تموز) 1958 في بغداد بمثابة «محطة أولى» للإطاحة بالفرع الثاني من الأسرة الهاشمية في الأردن، لكن تدخل القوات البريطانية في اليوم التالي للانقلاب أضفى الحماية المطلوبة للتاج الأردني.

كان التأرجح الأردني قد حسم مرة أخرى في رفع راية العداء للنظام الجمهوري الجديد في بغداد، حتى أن الأردن أرسل قوة عسكرية، وإن رمزية، في العام 1961 لمساندة الكويت في مواجهة مطالب عبد الكريم قاسم في محاولاته لضمها للأراضي العراقية.

لكن مياه العلاقات بين الطرفين سرعان ما عادت إلى مجاريها منذ مطلع السبعينات، وتعمقت أكثر فأكثر بعد استنكاف القوات العسكرية العراقية في الأردن دعم الفدائيين الفلسطينيين في أحداث سبتمبر (أيلول) 1970 ضد القوات النظامية الأردنية. وباندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية، شهد خط العلاقة بين بغداد وعمان أعلى درجات التحالف السياسي والاستراتيجي، بل ان الاقتصاد الأردني ارتبط بشكل لم يسبق له مثيل بالسوق العراقية، فنشأت مصانع كثيرة في الأردن قائمة كلياً على تلبية احتياجات السوق العراقية من سلع وخدمات، وصار ميناء العقبة الأردني الميناء الرئيسي للواردات العراقية، وقدمت الحكومة العراقية معونات وتسهيلات كبيرة للأردن كالنفط والمنح التعليمية والمعونات المالية المباشرة والأفضلية في الاستيراد، وهو ما يفسر، إلى حد كبير، العواطف الجماهيرية الأردنية التي ما تزال تؤيد رأس النظام السابق، كما المصالح التي نمت وتجذرت في البيئة الأردنية على هوامش هذه العلاقة. في نهاية الثمانينات، قامت القيادة الأردنية بالدخول في محور ضم كلاً من بغداد وعمان والقاهرة وصنعاء أطلق عليه تسمية «مجلس التعاون العربي»، ومرد هذا الاصطفاف مرة أخرى التأرجح الدبلوماسي في التأقلم مع الوقائع السياسية والاقتصادية والاستراتيجية الجديدة.

من هنا، جاء الحصار الاقتصادي على العراق منذ العام 1990 ليضع نقطة النهاية على حقبة كان عنوانها مفارقة جعلت الأردن دولة نفطية في الاستهلاك وغير نفطية في الإنتاج. فالأردن ولا شك كان من أكثر الدول في العالم استفادة من الريع النفطي العراقي بدون أن يكون هو ذاته منتجاً له. ومن هنا أيضاً كان ذلك الشعور الرسمي والشعبي الأردني بالأذى الاقتصادي الواسع بسبب التدهور المستمر للعائدات التي كان يحصل عليها من الجار العراقي. لقد أدى هذا التدهور في العائدات العراقية إلى فقدان الدينار الأردني أكثر من ثلث قيمته في سوق القطع وإلى عدد من الإجراءات التقشفية القاسية الهادفة إلى وقف تبذير العملات الصعبة من خلال الحد من الاستيراد.

لكن الأزمة الاقتصادية التي تمخضت عن تضاؤل المساعدات العراقية ما كانت تثير القلق لو حصلت بهذه المعدلات في بلد غير الأردن الذي يبدو باستمرار أكثر حساسية لهذه التقلبات السلبية للتخوف الدائم من تأثيراتها السياسية المباشرة عليه. هكذا بدت القيادة الأردنية على علم بهذه الحقائق، فسارعت 1994 إلى توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل مما ضمن لها تدفقاً للمساعدات المالية سواء من الولايات المتحدة الأميركية أو من غيرها. وفي إطار التأقلم مع الواقع السياسي الجديد، أجرت القيادة الأردنية مراجعة شاملة لمواقفها العراقية، فاستضافت 1995 حسين كامل أحد أركان رموز النظام العراقي السابق، كما أصبحت عمان «محطة» لا غنى عنها لعدد من قادة المعارضة العراقية في الخارج. على أن سياسات التأقلم الأردني الصعب مع الحالة العراقية المتغيرة لم تعد ذات فاعلية في ضوء إطاحة النظام في بغداد. وقد رأينا في العامين المنصرمين مؤشرات متفرقة من هذه السياسات، فتابعنا الأردن محورياً حيناً، وسطياً حيناً آخر، مندفعاً ساعة ومحايداً أخرى.

السؤال الجوهري هو: هل يمكن أن يتصور الأردن مستقبل علاقته مع العراق انطلاقاً من ديمومة نشاط أبو مصعب الزرقاوي هناك. وفي ضوء مسألة تحديد أولويات الاحتياجات الأمنية للطرفين، هل ينطلق الطرفان الأردني والعراقي من الحد الأدنى في مجالات التعاون المتوافرة، أقله ضبط «سيولة» الحدود المشتركة، انطلاقاً من أن «الاتفاق على الاختلاف» يشكل أساساً كافياً لإعادة تكامل سياستهما في المجال الأمني؟

ليست الإجابة على كل حال سهلة، إلا أن ما يمكن تلمسه اليوم أن الملف الأمني بين الطرفين سيكون بمثابة «الكاشف الكيماوي» للعلاقات الأردنية ـ العراقية، وهو الأمر الذي من شأنه أن يخلق إحساساً بتحقيق قدر من التناغم في سياسات البلدين، وبدون ذلك سيظل «التعايش السلمي» بينهما هو السقف المنشود في العلاقة الثنائية.

* كاتب وأكاديمي عراقي مقيم في فيينا