سورية ـ أميركا.. علاقات أضرت بها السطحية وأساءة قراءة التحولات العالمية

عزلة دمشق من صنع يدها واحتواء الأضرار أولوية قصوى

TT

اذا كان لا بد من الحكم على العلاقات بين الولايات المتحدة وسورية، على أساس الموجهة الحالية، يمكن الوصول الى خلاصة تتلخص في ان «التوتر» ظل باستمرار سمة للعلاقة بين واشنطن ودمشق، كما يمكن القول ايضا ان الوضع الراهن للعلاقة بين الجانبين يعتبر نتيجة محتومة لفترة متواصلة من العداء ولدت مع الحرب الباردة، والاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية منذ 1948. يضاف الى ذلك ان سورية ظلت منذ عام 1979 في القائمة الاميركية للدول الداعمة للارهاب، وان دعمها لإيران منذ حرب الثماني سنوات التي شنها صدام حسين، بمباركة الغرب، ساهم بالتأكيد في ما وصلت إليه العلاقة بين الطرفين. إلا ان كل ذلك لم يمنع الدولتين من الاحتفاظ بعلاقات دبلوماسية، ولم يمنع ايضا ان تكون بين الجانبين علاقات ودية خلال عقد التسعينات بعد مشاركة سورية في التحالف الدولي لتحرير الكويت عام 1991. ادى ذلك الوضع الى منح الولايات المتحدة «حرية مطلقة» للهيمنة السورية في لبنان والى رعاية واشنطن لعملية السلام التي انطلقت في مدريد. ويمكن القول ان التحسن النسبي فى العلاقات بين دمشق وواشنطن بعد حرب الخليج الثانية يعود الى وجود مصالح مشتركة، إضافة الى ما اظهره النظام السوري من بعد نظر في تقديراته للأوضاع والتطورات الدولية المتغيرة بعد زوال الاتحاد السوفياتي ليعيد «وضع نفسه» طبقا للمتغيرات التي طرأت على العالم، والحصول على الفوائد الاقتصادية والسياسية المترتبة عليها. تعاملت سورية، تحت ظل نظام الرئيس الراحل حافظ الاسد، بنشاط مع الولايات المتحدة وعلى وجه التحديد مع الرئيسين السابقين جورج بوش الأب وبيل كلينتون اللذين اعترفا بالدور السوري المهم في المنطقة ومطالبها المشروعة في إعادة مرتفعات الجولان ومعادلة الارض مقابل السلام.

غير ان ميراث العلاقات الذي آل الى بشار الأسد وجورج بوش الابن اختلف عن سابقه، واتسم بالتوتر بصورة عامة. اذ لم تكن هناك «رغبة» لدى جورج بوش الابن ولا «فرصة» لدى بشار الاسد لمواصلة الحوار. فالادارة الاميركية الجديدة كانت مصممة في بداية الأمر على ان تنأى بنفسها عن النهج الذي كانت تتعامل به ادارة كلينتون مع الشرق الاوسط، وتتجاهل الانتفاضة الفلسطينية، باستثناء تأكيدها على نحو منتظم على «حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها». النظام السوري من جانبه كان منشغلا بالتعامل مع «ربيع دمشق» بعد ان وعد بالاصلاحات والوقوف وراء الفلسطينيين وإعادة التكيف مع الوضع الجديد في لبنان. غير أن هجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001 دخلت بالعلاقات الى مرحلة جديدة. فعندما أعلن الرئيس بوش الحرب على الارهاب، عرضت سورية على الولايات المتحدة طواعية قدرا كبيرا من المعلومات الاستخبارية عن عدد من الجماعات الاسلامية ظنا منها ان هذه الخطوة ستكسبها نفوذا في جبهات اخرى. إلا ان قراءة دمشق للموقف الاميركي كانت «سطحية»، ذلك ان واشنطن رأت ذلك التعاون «حقا واجبا» لها ولم تكن تعتبره مطلقا مساعدة من الجانب السوري ولم يكن لديها استعداد لتقديم استثناءات فيما يتعلق بقضية الجماعات الفلسطينية واللبنانية التي تدعمها سورية، خصوصا في ظل النشاط المتواصل للوبي المؤيد لاسرائيل.

اتخذت سورية عقب غزو العراق موقفا متحديا وخطابا استفزازيا تجاه الولايات المتحدة وذلك بدلا من المناورة بشيء من الحكمة والحذر لتفادي المزاج الاميركي السريع الانفعال والتطورات الجديدة في المنطقة. وعقب تصويتها لصالح القرار 1441، باتت دمشق تتمنى الهزيمة للغزاة. هذا الموقف في مجمله أثار فورا غضب الولايات المتحدة وبرزت اتهامات لسورية بدعم التمرد العراقي وإيواء عناصر من حاشية صدام حسين، وهي اتهامات لم يثبت دليل عليها. حاولت دمشق مواجهة هذه التهم اولا من خلال عدم المشاركة في التصويت على القرار 1483 حول العراق (زعمت سورية في وقت لاحق انها كانت ستصوت لصالح القرار)، وبتصويتها في نهاية الأمر لصالح القرار 1511 (بعد ايام من توجيه اسرائيل ضربة داخل سورية لأول مرة منذ 30 عاما)، إلا ان ادارة بوش لم تكن كالعادة في مزاج يسمح لها بالمقايضة وواصلت رفض محاولات سورية لاستئناف علمية السلام، حتى في ظل استبعادها من خارطة الطريق. اسرائيل من جانبها ظلت تدفع الكونغرس باتجاه معاقبة سورية على مدى سنوات. النظام السوري لم «يتجاهل» فحسب «مؤشرات التحذير» وما ينطوي على ذلك من مخاطر، بل ساهم في «فرض العزلة» على نفسه بمواصلة التحدث بلهجة عدائية فيما يتعلق بالاوضاع في العراق. وعندما صادق الكونغرس على قانون محاسبة سورية والسيادة اللبنانية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2003، جاء ذلك نتيجة لموقف سورية في العراق وافتقارها لضبط النفس في مواجهة قوة عظمى غاضبة. لا شك في ان العراق كان الدافع وراء قانون محاسبة سورية، إلا ان لبنان هو السبب الرئيسي وراء المصادقة على قانون تحرير لبنان وسورية. ترى، هل تأمل سورية في تفادي كارثة في اللحظات الاخيرة ؟ ام انها ستواجه هذا الخطر المتجدد بفرض عقوبات (وربما أسوأ) في الوقت المناسب؟ النماذج الاخيرة على ردود الفعل السورية ليست مطمئنة. فعملية ولاية الرئيس اللبناني اميل لحود فترة ثانية جرت رغم التحذيرات التي اطلقتها عدة أطراف. رغم ذلك بدت سورية مندهشة بتمرير قرار مجلس الأمن رقم 1559 بعد اتفاق اميركا وفرنسا. وانطلاقا من الافتراض ان الولايات المتحدة وفرنسا لن تستطيعا التصالح بعد الخلافات التي نشبت بينهما حول حرب العراق، ظنت سورية ان الشكاوى الفرنسية حول تدخلها في لبنان ستنتهي في نهاية المطاف وأن الرهان على لحود سيعود بفائدة. مرة اخرى، أخطأت سورية قراءة المؤشرات وفشلت في فهم المزاج الدولي السائد معتمدة بصورة كبيرة على اوروبا في مقابلة الضغوط الاميركية عليها، كما كانت تتوقع دمشق ان تكون لدى اوروبا رغبة في التوصل الى نتيجة لصالحها بشأن الاتفاق حول إطار التعاون بين الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي ودول اخرى. قصر النظر وضع سورية هذه المرة في موقف جديد تماما لم تضعه في الحسبان. فقبل القرار 1559 لم تخرق سورية من الناحية الفنية القانون الدولي، اذا وضعنا جانبا القرارات ذات الصلة بحظر تصدير النفط العراقي (وهي القرارات التي تجاهلها ايضا حلفاء للولايات المتحدة مثل الاردن وتركيا). إن الالتزام بقرارات الامم المتحدة (خصوصا 242 و338) ظل على مدى فترة طويلة يشكل اساسا للسياسة الخارجية لسورية في مواجهة اسرائيل، والأرضية الاخلاقية التي تسمح لها بالمطالبة بإعادة اراضيها. اذا اخذنا هذا السبب على وجه التحديد، ورغم عدم تطابق الوجود السوري في لبنان والاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية، فإن على سورية الوفاء بالتزاماتها بموجب القرار 1559 . الولايات المتحدة ستواصل من جانبها فرض المزيد من الضغوط على سورية، حتى بعد انسحاب سورية من لبنان. «احتواء الاضرار» يجب ان يتصدر قائمة اولويات النظام السوري الان، إلا ان رد فعله على احداث الاسابيع الستة السابقة كان «بطيئا ومشوشا»، كما لا تزال مساعي وجهود العلاقات العامة غائبة. وتحتاج العلاقات مع لبنان الى الوقت والحكمة.

هذا بالطبع أمر الحديثُ حوله أيسرُ من فعله، وهناك بضعة تنازلات خارجية قدمتها سورية. فقد تعاونت دمشق على نحو متزايد فيما يتعلق بالعراق (من السيطرة على الحدود الى المساعدة في الانتخابات)، كما عرضت مفاوضات غير مشروطة مع اسرائيل وأيدت السلطة الفلسطينية وتخلت عن مطالباتها المتعلقة بالاسكندرونة وحسمت خلافاتها الحدودية مع الاردن. ترى، هل تنقذ سورية الاصلاحات السياسية والاقتصادية الداخلية ؟ اذا افترضنا ان الولايات المتحدة ترغب في الديمقراطية بالفعل، حسبما ورد في مشروع قانون محاسبة سورية، واذا اخذنا في الاعتبار مطالب المجتمع المدني في سورية، يبدو ان هذا افضل خيار أمام النظام السوري الآن.

* باحثة متخصصة في شؤون الشرق الأوسط فى «شاتوم هاوس» ـ لندن