نجحت ثورة الليمون .. فهرب الرئيس

قيرغيزستان.. على خطى «الزهور» الجورجية و«البرتقال» الاوكراني

TT

عسكر عكايف، رئيس قيرغيزستان، الذي كان حتى الامس القريب يبدو اكثر زعماء بلدان آسيا الوسطى «ديمقراطية» واقلهم انتماء الى الحزب الشيوعي السوفياتي، بات اليوم مهددا بمواجهة مصير عدد من رؤساء جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق ممن سبق وانضووا معه تحت لواء تشكيلات حزبية ضمت بين صفوفها «الشيء ونقيضه»، ومن بينهم ادوارد شيفرنادزة الذى اطاحته ثورة ديمقراطية فى جورجيا 2003، وفيكتور يانوكوفيتش الذى اطاحته ثورة ديمقراطية اخري فى اوكرانيا 2005. فمع امتداد مظاهرات المعارضة ضد عكايف فى ارجاء البلاد بسبب الانتخابات البرلمانية التى جرت فى فبراير (شباط) ومارس (اذار) الماضي، والتي قالت المعارضة ان نتائجها مزورة، وهو ما أكدته هيئات دولية، قام الرجل الذى حكم البلاد 14 عاما حتى الان، ودان له البعض بفضل الانتقال من الاقتصاد والسياسة المغلقين الى الانفتاح، بمغادرة البلاد هو واسرته الى كازخستان وروسيا.

ظهر عكايف مع آخر سنوات الثمانينات ابان فورة الحركة الديمقراطية في اعقاب الاعلان عن الاصلاح او «البيريسترويكا». جاء من معامل اكاديمية العلوم، اذ تخرج من معهد الرياضيات في لينينغراد وقضى كل سنوات شبابه مشغولا بالعلم والتعليم. حتى حين التحق بالحزب الشيوعي في قيرغيزستان اختار ان يكون مسؤولا عن قسم العلوم والمعاهد التعليمية في عام 1986 أي مع اولى سنوات البيريسترويكا.

وتحت شعارات ديمقراطية خاض من موقعه كرئيس لاكاديمية العلوم في قيرغيزستان حملته الانتخابية للفوز برئاسة السوفيات الاعلى في 1990 خصما من رصيد قيادة حزبية قديمة لم تكن موسكو تريد استمرارها، ما كان مقدمة لفوزه في الانتخابات الرئاسية في اكتوبر (تشرين الاول) 1991. ومع اعلان الاستقلال في اعقاب فشل انقلاب اغسطس (اب) 1991، بدأت قيرغيزستان تعيش ازهى عصورها وهي التي طالما انزوت في موقعها الضيق بين قزقستان في الشمال والصين في الشرق وتاجيكستان في الجنوب الغربي واوزبكستان في الغرب. لم يكن عكايف حزبيا ضيق الافق شأن الكثيرين من امثاله في عدد من الجمهوريات المجاورة. بل كان يدرك قدرات جمهوريته التي غرقت في كنف التخلف الصناعي والعلمي. ولذا لم يكن غريبا ان تواجه قيرغيزستان الكثير من الصعاب على طريق التحول الى اقتصاد السوق. فإلى جانب مشكلة هجرة الكفاءات والكوادر الروسية والناطقة بالروسية من ممثلي القوميات الاخرى، كانت هناك مشاكل الفساد وتصاعد التطرف الديني ونقص الموارد. حاول عكايف شأن غيره من زعماء الجمهوريات السوفياتية السابقة العثور على حلول لمشاكله عبر التعاون مع الغرب ومنظماته المالية، في نفس الوقت الذي حرص فيه على استمرار علاقاته مع بلدان منظومة الكومنولث التي شارك في تاسيسها في ديسمبر (كانون الاول) 1991 بعد الاعلان عن انهيار الاتحاد السوفياتي السابق.

وكان شديد الحرص على توطيد علاقاته مع جيرانه من بلدان آسيا الوسطى وارتبط اكثر بقزقستان الاغنى بنفطها ومواردها وموقعها على ضفاف بحر قزوين. بل وبارك عقد قران ابنه على ابنة الرئيس القزقستاني نور سلطان نزاربايف وإن انفرط عِقد هذا القران بعد فترة وجيزة. ارتبطت قيرغيزستان مع بلدان معاهدة الامن الجماعي، ومع بلدان الاتحاد الجمركي، ومع الصين في إطار اتفاقيات الامن والحدود فيما وطد علاقاته الاقتصادية مع تركيا التي تجمعه معها أصول عرقية تاريخية مشتركة. ولم يرفض طلب الرئيس الاميركي جورج بوش للسماح بتمركز القواعد العسكرية الاجنبية في بلاده في اطار التعاون لمكافحة الارهاب والحرب ضد طالبان في افغانستان. غير انه وسعيا من اجل مواقف اكثر توازنا سرعان ما عقد مع موسكو اتفاقا عسكريا يقضي بافتتاح قاعدة «كانت» على مقربة من القواعد الغربية، الى جانب التسهيلات الخاصة بإقامة العديد من مراكز الرقابة للمشروعات المدنية والعسكرية الروسية. غير أن الرغبة في البقاء طويلا في سدة الحكم التي ورثها القادة الجدد لجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق عن الزعماء السوفيت، كانت لا بد وان تفضي الى مشاكل فى مجتمعات تنفست الديمقراطية ولو قبل وقت قصير ومن بينها قيرغيزستان التي يقدر عدد سكانها بنحو خمسة ملايين نسمة، أغلبيتهم من المسلمين، فيما هناك اقلية اوزبكية كبيرة في الجنوب. ففي منتصف التسعينات وتحت وقع تغييرات مماثلة في الجمهوريات الاسيوية المجاورة، اعرب عكايف عن رغبة في استمرار حكمه لفترة ولاية اطول. فأعلن عن حل السوفيات الاعلى (البرلمان) وانتخاب آخر مع تغيير الدستور والاستفتاء على مد فترة حكمه حتى عام 2001 وهي الفترة التي تجددت حتى اليوم. ازاء ذلك كان من الطبيعي وبعد تشكيل ما يقرب من عشرين تنظيما حزبيا وحركة سياسية الى جانب عشرات الهيئات من مؤسسات المجتمع المدني ان تظهر الظروف المواتية لحركات احتجاج تقودها المصالح والحرص على الديمقراطية في وقت اكتوى فيه البعض من رفاق الامس القريب من نيران التسلط ومحاولة فرض الرأي الواحد. وجاء نجاح الثورتين «الزهور» في جورجيا و«البرتقالية» في اوكرانيا مقدمة لاحتدام الاوضاع في قيرغيزستان في اعقاب الانتخابات البرلمانية التي تتهم المعارضة السلطة الرسمية بتزويرها ما يبدو بداية «ثورة شعبية» يحار الكثيرون امام تغير اسمها ومسمياتها. فمن راغب في تسميتها بـ«ثورة زهور السوسن» الى «ثورة اللوز» الى من تجاسر ووصفها، من ممثلي الاوساط اليمينية الروسية بـ «ثورة الرعاع»، وذلك حين قال احدهم ان ممثلي «البربرية الديمقراطية» في قيرغيزستان يرفعون رايات الاحتجاج ضد من سبق وقاد رحلتهم الى المدنية، على حد قول «الصحيفة المستقلة» في موسكو.

غير ان الغالبية تسميها «ثورة الليمون» في اشارة لربطها ضمنا بثورة «البرتقال» في اوكرانيا.

وبغض النظر عن المسميات جاءت الشعارات التي ترفعها المعارضة القيرغيزية قريبة من تلك التي رفعتها المعارضة في كل من جورجيا واوكرانيا من حيث اعتراضها على السلطة والمطالبة برحيل الرئيس وإلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية فضلا عن مناشدة الغرب الدعم والمعونة. غير ان الغرب وحسبما يبدو لا يتعجل تقديم العون الان، في نفس الوقت الذي تقف فيه موسكو الى جانب السلطة الرسمية بعد اعلانها صراحة عن ادانة مثل تلك «الاساليب الغوغائية» ومناشدتها الاطراف المعنية الجنوح الى صوت العقل. وعودة الى اوجه الشبه مع ثورتي الامس القريب، نشير الى انه من الغريب والمثير معا ان تقف الى جانب زعيم المعارضة قرمان بيك الذي يسمونه يوشينكو قيرغيزستان، روزا اوتونبايفا وزيرة الخارجية السابقة مثلما وقفت نينو بورجونادزه رئيسة البرلمان الجورجي الى جانب ميخائيل ساكاشفيللي زعيم المعارضة الجورجية خلال «ثورة الزهور» ويوليا تيموشينكو الى جانب فيكتور يوشينكو زعيم «الثورة البرتقالية» في اوكرانيا. اضافة الى ذلك ينبغي التوقف عند ظاهرة اندلاع حركات المعارضة في الجمهوريات السوفياتية السابقة من جانب من كانوا يمثلون حتى الامس القريب كبار المسؤولين في هذه الجمهوريات. فمثلما خرج بوريس يلتسين من معطف الحزب الشيوعي السوفياتي ليرفع راية الاحتجاج والمعارضة في وجه زعيمه ميخائيل غورباتشوف، خرج ساكاشفيلي عن طوع زعيمه ادوارد شيفارنادزه الذي سبق ووقف وراء تصعيده في ساحة السياسة الكبرى مع رفيقيه زوراب جفانيا ونينو بورجونادزه، فيما تزعّم «الثورة البرتقالية» فيكتور يوشينكو الذي سبق وعينه ليونيد كوتشما رئيسا للحكومة مع زميلته يوليا تيموشينكو التي شغلت منصب نائب رئيس الحكومة، وتشغل اليوم منصب رئيس الحكومة الاوكرانية.

ولذا لم يكن غريبا ان يتزعم المعارضة القيرغيزية اليوم قرمان بيك رئيس الحكومة السابق وروزا اتونبايفا وزيرة الخارجية السابقة واسماعيل ايساكوف نائب وزير الدفاع السابق وفيليكس قولوف وزير الداخلية السابق الى جانب بقطر حسانوف عضو البرلمان السابق وعمور بك تيكيبايف وآخرين من كبار قيادات الجمهورية حتى الامس القريب. وفي الوقت الذي يزور فيه بعض ممثلي الاحزاب الجورجية قيرغيزستان في محاولة للاعراب عن دعمهم لما يعتبرونه ارهاصات الثورة، يعترض آخرون من قيادات المعارضة على اعتبار ما يجري «ثورة» ويصفونه «بالفوضى» التي لا يسمع خلالها احد نداءات الاخر في وقت يطلق فيه الكثيرون العنان لمشاعرهم.

واذا كان هناك من تنبأ بخروج عكايف مثخنا بجراح معارك لم يحالفه التوفيق في إدراك أبعادها وأهدافها في الوقت المناسب، فإن الانظار تظل معلقة بعواصم مجاورة تحسبا لمواجهة يتوقعها الكثيرون بين الانظمة القائمة هناك وهي اشد تسلطا وشمولية، وبين المعارضة التي يتسع نطاقها اكثر من ذي قبل. وفي الوقت الذي تتعلق فيه الانظار بقزقستان بوصفها الجمهورية الاكثر احتمالا لمواجهة تحركات معارضة مماثلة، تبدو موسكو والدوائر الغربية أقرب الى اتفاق غير معلن حول ضرورة الحيلولة دون تحقيق المعارضة في قيرغيزستان لاهدافها تخوفا من احتمالات انتشار ما يصفونه بالتطرف الديني واشتداد عود الاصوليين الاسلاميين في العديد من مناطق آسيا الوسطى.