وولفويتز.. صراع الفيلة

سيرته تشبه روبرت مكنمارا فهل يحقق إنجازاته؟

TT

«عندما تتصارع الفيلة، فإن عشب الأرض هو الذي يدفع الثمن»، هكذا لخصت صحيفة «واشنطن بوست» الاميركية ترشيح بول وولفويتز نائب وزير الدفاع الأميركي لمنصب رئيس البنك الدولي. والاقتباس الذي هو عبارة عن مثل أفريقي قديم وحكيم، يلخص القلق العميق، حتي داخل الأوساط الاميركية من تعين وولفويتز في هذا المنصب الذي يقوم في جوهره على فلسفة «الاعتماد المتبادل والتعاون الدولي». ومنبع القلق أن وولفويتز على ما يتمتع به من خبرة دولية كبيرة في مجال الدفاع والسياسة الدولية، إلا انه لا يتمتع بخبرة في مجالات النمو والفقر والتنمية. غير أن الأخطر انه من أبناء المخلصين للمدرسة «الواقعية» في العلاقات الدولية وهي مدرسة تقوم علي ثلاثة عناصر متشابكة: «قوة الدولة ومصالحها والصراع». يبدو إذاً أن «عشب الارض»، او في هذه الحالة الناس العاديون، هم الذين سيدفعون الثمن جراء اختيار الرئيس الأميركي جورج بوش لوولفويتز لرئاسة البنك الدولي، فدوناً عن كل المنظمات الدولية يحتاج البنك الدولي الى «تعاون دولي» وإعلاء «القيم» على «المصالح». وعليه فإن صراع الفيلة الاميركية والأوروبية، تعيين وولفوويتز، رسالة أميركية للعالم ولأوروبا على وجه الخصوص، سينجو منه الفيلة ، فيما سيذهب ضحيته العشب وما تبقى من سياسات الضمان الاجتماعي التي تحمي الفقراء في العالم النامي. غير ان النظر الى وولفويتز ببساطة أو سطحية خطأ كبير، فحتي اشد اعداء المدرسة الواقعية والفكر اليميني لا يستطيعون ان يجردوا وولفويتز من بعض المزايا، ومن بينها على حد قول بوش انه رجل الانجارات، او بمعنى آخر انه الرجل الذي تستطيع ان تعطيه مهمة ما وأنت متأكد من انه سيقوم بانجازها. وعلى هذا يراهن الكثيرون على ان وولفويتز يمكن ان يكون «مكنمارا الجديد». وروبرت مكنمارا هو وزير الدفاع الأميركي خلال حرب فيتنام التي شنت باستخدام نفس المبررات الأخلاقية التي شنت بها الحرب فى العراق عام 2003. شغل مكنمارا منصب مدير البنك الدولي بين ابريل (نيسان) 1968 ويوينو (حزيران) 1981، ورغما عن افتقاده الى خلفية اقتصادية قوية وسجله العسكري الحافل والمثير للجدل، الا انه يعتبر بالكثير من المعايير من المديرين الناجحين للبنك الدولي، بل انه اطول مديري البنك الدولي بقاء في منصبه، وقد تمكن مكنمارا خلال سنوات عمله من إحداث الكثير من التغييرات فى هيكلة وبرامج البنك ففاجأ أنصاره وأعداءه معا. ولا يمكن استبعاد ان وولفويتز يفكر فى الاقتداء بمسيرة مكنمارا، فيوم امس تعهد الرجل الذي يوصف بأنه احد اقوي صقور البنتاغون بالعمل على الحد من الفقر فى العالم ومساعدة الدول النامية، غير ان سيرته العملية لا تطمئن الكثيرين. فوولفويتز الذى ولد فى 22 ديسمبر (كانون الأول) 1943، ودرس العلوم السياسية فى جامعة شيكاغو حتي تخرج منها 1972، مال منذ البداية للجمهوريين والأفكار اليمينية وعمل 27 متواصلة فى الحكومة الاميركية، من بينها عمله مساعد لوزير الخارجية لشؤون شرق آسيا والباسفيك من 1986 الي 1989، ونائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الدفاع من 1981 الي 1982، وسفيرا في اندونسيا من 1989 الي 1993. وقبل انتقاله إلى ثاني أكبر منصب بالبنتاغون أمضى وولفويتز 7 سنوات عميدا وأستاذا للعلاقات الدولية في كلية بول إتش نيتشه للدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز.

ومن المحطات الهامة فى مسيرة وولفويتز قضاؤه عامين في نهاية الثمانينات سفيرا لبلاده لدى إندونيسيا، حيث اهتم هناك بالإسلام والتاريخ الاسلامي بشكل مباشر. ولم يعش وولفويتز أبدا في أي دولة نامية، غير ان أقرب رفيقاته في السنوات الماضية هي فتاة تونسية الأصل، وتعمل مسؤولة مصرفية، وقد كانت وراء تأجيج اهتمامه بضرورة إجراء تغييرات ديمقراطية في العالم العربي، وبهذا المقياس يعد وولفويتز أيضا «الأكثر مثالية» بين المحافظين الجدد; فدعمه للديمقراطية وحقوق الإنسان وبخاصة في العالم العربي والإسلامي يعد أمرا طارئا وحديث نسبيا للعديد من المحافظين. وقال بيتر تيمر الباحث البارز في «مركز التنمية العالمية» بواشنطن ان «خدمته سفيرا في إندونيسيا علمته الكثير عن التنمية». وأضاف تيمر الذي عمل مستشارا اقتصاديا للتنمية في إندونيسيا وقتما كان وولفويتز سفيرا، وخدم لاحقا في لجان أكاديمية معه «إحساسي الشخصي هو أن لديه فكرة عن كيف يبدو مجتمع مسلم ليبراليا من خلال عمله في إندونيسيا. أعتقد بأمانة أنه سيدهش الجميع، وسيكون فعالا تماما». وقارن تيمر بين قيادة وولفويتز المتوقعة للبنك الدولي وقيادة مكنمارا. غير ان ترشيح وولفويتز، المهندس الرئيسي لإحدى أقل الحروب شعبية في التاريخ أثار على الجانب الآخر موجة من الجدل لم تهدأ حتى الآن في عواصم العالم وبين الاقتصاديين وجماعات التنمية المستقلة. كما أثار «مواجع» حول البنك نفسه وحول سياسة أميركا الخارجية، اذ قامت العديد من الجماعات التابعة للحركة المناهضة للعولمة بتوحيد جهودها لدعم موقفها المعارض لوولفويتز. وقالت مصادر قريبة من تلك الحركة العالمية البازغة ان هذا الموقف واحدا من أصعب التحديات التي تواجه منظمات المجتمع المدني العالمي منذ أن نجحت في حشد الآلاف من المتظاهرين في مدينة سياتل عام 1999 من أجل مناهضة سياسات منظمة التجارة العالمية، وكانت تلك المظاهرات هي التي كتبت شهادة ميلاد ما يسمى الآن بـ«حركة العدالة العالمية». والمنتقدون للترشيح، ومنهم استاذ التنمية بجامعة كولومبيا ومستشار الأمم المتحدة جيفري ساكس، وجوزيف ستيغليتس الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد والذي عمل سابقا كبيرا للاقتصاديين في البنك الدولي، يقولون ان مدة خدمة وولفويتز في المجال الأكاديمي والخدمة العامة تفتقر بشكل ملحوظ إلى الخبرات المباشرة بالبنوك أو التنمية، ناهيك من الخبرة في مجال القضاء على الفقر الذي يعد المهمة المعلنة الرئيسية للبنك، وهو ما أثار كثيرا من اللغط في أفريقيا وأميركا اللاتينية أيضا، وهما منطقتان لهما أهمية كبيرة للبنك، ضد ترشيح وولفويتز. ويعلق المعارضون للترشيح الآمال على معارضة أوروبية قوية. ويقولون إن الدول الأوروبية مجتمعة تشكل كتلة كافية يمكنها معارضة الخطوة الأميركية. وقامت العديد من المنظمات الدولية بحث الجماهير على إصدار بيانات صحافية قصيرة، والاتصال بأعضاء البرلمان أو وزراء المالية وحثهم على مناهضة هذا الترشيح. ولكن في ضوء الطريقة التي يجري بها اختيار رؤساء المؤسسات المالية الدولية التي تهيمن عليها مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى ـ فمن غير المحتمل أن تكون المعارضة الأوروبية أصيلة او راغبة او قادرة على التغيير. إذ ان أعضاء مجلس إدارة البنك الدولي الـ24 ليسوا فعليا سوى موظفين تكنوقراط كبار، وعندما يجتمعون في الأول من إبريل (نيسان) المقبل للتصويت على وولفويتز، لن يكون الأمر سوى اجراء شكلي، فالقرار سيكون قد اتخذ بالفعل في كواليس السياسة العالمية، خاصة بين واشنطن التي تتمتع بحق تعيين أميركي في منصب مدير البنك الدولي، وأوروبا التي تتمتع بحق تعيين أوروبي في منصب مدير منظمة صندوق النقد الدولي بحسب اتفاق «بيرتون وودوز» بعد الحرب العالمية الثانية. والجلي في الأمر أن وولفويتز قد نال مساندة وتأييد كبار السياسيين ورجال الدولة في الولايات المتحدة الأميركية، وهي الدولة صاحبة النفوذ الأعلى في مجالس إدارة المنظمات المالية ومقرها العاصمة واشنطن، كما انها وحدها تتمتع بحق الفيتو في مجلس إدارة البنك، ومن ثم فإن تعيين وولفويتز يبدو في حكم المؤكد. ويذكر انه رغم التأثير الضخم في رسم سياسات الدول العربية الاقتصادية لا تمثل الدول العربية او الدول النامية الأخرى إلا تأثيرا ضئيلا جدا داخل تلك المؤسسة الهامة. فعلى سبيل المثال يمثل 46 دولة افريقية ممثلان فقط في مجلس إدارة البنك وصندوق النقد، بينما تتحكم الدول الصناعية السبع بـ60 في المائة من الأصوات الإجمالية في قرارات الصندوق او البنك، فيما لدى الولايات المتحدة وحدها، نتيجة تمويلها الكبير للبنك، حق الفيتو على القرارات الاستثنائية الصادرة من البنك.

وقد منع هذا النظام غير الديمقراطي والمتحيز للدول الصناعية دولا ذات عدد سكان كبير، مثل الهند والصين وهما صاحبتا تعداد سكاني إجمالي يصل الى 2.3 مليار نسمة، من ان يكون لها أي تأثير يشبه تأثير أميركا او فرنسا او بريطانيا، على الرغم من ان البنك يمرر سياساته كمؤسسة دولية.

ولكن بعضا من أشد المنتقدين للبنك ما زالوا يرون جانبا مضيئا في الترشيح المثير للجدل، اذ قال أحد الاقتصاديين في واشنطن، لم يرغب في الإفصاح عن اسمه، «إن أحد الأمور الإيجابية في هذا الأمر قد يكون تسهيل تجميع حركة النشطاء العالمية المناهضة للحرب، والتي تغطي نطاقا أوسع من الاهتمامات، بنشطاء معارضة المؤسسات المالية الدولية». وأضاف «إن هذا الأمر أشبه بعملية تضافر، كما يساعد على التوحيد بين المناهضة للحرب والمناهضة لموضوعات انعدام العدالة الاقتصادية، وهي ديناميكية سياسية من الأرجح أن يتم تبنيها في حالة تقدم ترشيح وولفويتز». وأشار سورين أمبروز، كبير المحللين السياسيين في «شبكة 50 عاما تكفي»، الى الجانب الايجابي في ترشيح شخص مثل وولفويتز قائلا «إذا ما تأكد تعيينه فلن نضطر بعد الآن للعمل بجد لإقناع الناس بأن البنك الدولي أداة للسياسة الخارجية والاقتصادية الأميركية. وولفويتز ليست لديه خبرة في مجال التنمية، إنه مجرد تكريس فكري عنيف للاقتصادات الليبرالية الجديدة المتشددة والهيمنة الأميركية». وأضاف أمبروز «بعبارة أخرى، ما بين فرض مخاطر حقيقية لنقص الديمقراطية في البنك الدولي ووضع أبرز رمز للإمبريالية الأميركية في أهم منصب في مجال التنمية الدولية، سيقوض الرئيس بوش شرعية البنك الدولي أكثر كثيرا مما يمكن أن يحدثه أي إجراء فردي آخر».