أفريقيا.. فن التقاعد وفن الحكم

بعض حكامها بقي في سدة الحكم ما يقارب الأربعين عاما

TT

«دعنا نكون صريحين، أنا مع القائلين بأنه من أفريقيا يبدأ الكذب» (القسيس السوداني الراحل هنري باغو عام 1974)

* يترجل عن الحكم غدا في القارة السمراء واحد من أباء الاستقلال في بلده لينضم الى فئة قليلة سبقته في ما يمكن أن نسميه (فن التقاعد) تماهيا مع عبارة (فن الحكم)، وتبدو اللغة الإنجليزية هنا كما أنها أكثر دقة في توصيف الحكم فتؤلف بين كلمتين هما (العربة والدولة) لتجعل من ناتجهما مجتمعتين عبارة فن الحكمStatecraft). ) ولكن تاريخ القارة السمراء مع هذا الفن يبدو معكوسا، فمعظم أباء الاستقلال ظلوا يتشبثون (بعربته) ولا يتركونها إلا بالموت كما مع غاسنغبي أياديما الذي ظل يحكم توغو منذ 1967 الى وفاته مطلع هذا الشهر، والحاج عمر بونغو الذي ظل يحكم الغابون من نفس تاريخ أياديما بفارق أشهر قليلة لصالح الراحل أياديما، وليصبح بونغو ديناصور أفريقيا مع الحكم بلا منازع، ليليه معمر القذافي الذي يحكم منذ 1969 .

يترجل غدا رئيس ناميبيا شافيهوما سام نوجوما ولكن بطريقته، فهو لم يترك الحكم طواعية لأنه بعد أن فاز بدورتين رئاسيتين في 1990 و1994 أوحى لمنظمة سوابو بتعديل الدستور، ليتمكن من ترشيح نفسه لولاية ثالثة ففعلت المنظمة، ففاز بها وانتهت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي فقدم هو مرشحه الجديد للرئاسة هيفكيبون يوهامبا، الذي سيتنازل له غدا عن السلطة، ليبقى نوجوما محتفظا برئاسة منظمة سوابو SWAPO الى عام 2007 (سوابو ترمز لمنظمة شعب غرب أفريقيا التي قادت عملية التحرير منذ 1959 الى أن استقلت ناميبيا في 21 مارس 1990) وهناك من يقول إن نوجوما سيظل يحكم من موقع رئاسة المنظمة أو الحزب).

ولكن لأفريقيا أيضا مع جدلية الحكم بضع صفحات مشرقة ترك فيها بعض أباء الاستقلال الحكم طواعية، وكان من الطبيعي أن يأتي التأسيس لهذه القاعدة التي تبدو شاذة أفريقيا، من رجل في علم وثقافة الراحل البروفيسور والفيلسوف والشاعر ليوبولد سنغور، الذي ترك الحكم طواعية عام 1980 بعد 20 عاما في الحكم، مثلما كان من الطبيعي أن تستهدي السنغال بمثل هذا الميراث السياسي لتصبح مع غانا وزامبيا الدول الأفريقية الوحيدة التي تصل فيها المعارضة للحكم في انتخابات نزيهة، وهكذا ترك الرئيس السنغالي عبده ضيوف (الابن البار للمعلم سنغور) والذي خلفه في الحكم بعد 20 عاما أيضا لمنافسه الرئيس الحالي عبد الله واد، مثلما ترك أب الاستقلال في زامبيا كينيث كاوندا الحكم للنقابي شالوبا الذي هزم هو الآخر في الانتخابات التالية، أما نموذج غانا فقد منع الدستور العقيد جيري رولنغ الذي ظل يحكم منذ 1981 من الترشيح لولاية ثالثة بالدستور الجديد الذي أجيز في 1991 فتمكن المعارض والرئيس الحالي جون كيوفور من هزيمة أتاميلز الذي كان يشغل نائبا لرولنغ في انتخابات عام 2000.

وكذلك كان من الطبيعي أيضا أن يأتي نموذج التقاعد الثاني من (المعلم) جوليوس نايريري رئيس تنزانيا الذي ترك الحكم طواعية بعد رئاسة تزيد على فترة سنغور بعام واحد 1964 ـ 1985.

ومن العجب أن السودان سجل الحالة الثالثة ولكن في سياق مختلف على يد المشير عبد الرحمن سوار الذهب الذي تنازل عن الحكم لحكومة الصادق المهدي الإئتلافية المنتخبة، وفاء بعهد كان قد حدده المجلس العسكري الانتقالي الذي تولى الحكم مع انحياز الجيش لانتفاضة شعبية أطاحت بحكم المشير جعفر نميري في 6 أبريل 1985 وكان سوار الذهب هو القائد العام للجيش السوداني في حقبة نميري نفسها، وحسبت الخطوة لصالح سوار الذهب باستدعاء حالات أفريقية أخرى وعد فيها العسكر في أفريقيا بالتخلي عن الحكم ولم يفعلوا. وبنفس نموذج السودان سجلت نيجيريا على يد الجنرال عبد السلام حالة التقاعد الثالثة بعد أن سلم الحكم لحكومة الرئيس الحالي أوباسانجو في 1999 بعد أن تسلمه أي الجنرال عبد السلام مصادفة مع الوفاة المفاجئة للديكتاتور ساني أباتشا الذي كشف لاحقا أن وزير الخارجية الأميركي السابق سجل في مضابط المخابرات الأميركية تقييما له حمل عبارة (القصير الكريه).

بعدها انقطعت جرعات التقاعد أفريقيا الى أن جاء زلزال سقوط الشيوعية وجدار برلين وما تبعهما من عواصف ومستحقات النظام العالمي الجديد الذي لا يزال يوالي تشكله، فترك رئيس زامبيا وأب الاستقلال فيها كينيث كاوندا الحكم بعد أن أسس تعدية سياسية هزمته في انتخابات أكتوبر 1991 بعد أن بقي في الحكم منذ الاستقلال في أكتوبر 1964، لتلحق به حالتا السنغال وغانا سالفتا الذكر، ليتوالى نفس السيناريو لاحقا في كينيا حيث تمكن المعارض والرئيس الحالي مواي مبيكي من هزيمة يوهورو كينياتا ابن أب الاستقلال جومو كينياتا في انتخابات 2002، لتنتهي بذلك حقبة الرئيس دانيال آراب موي الذي ظل يحكم منذ عام 1978 تاريخ وفاة جومو كينياتا.

وعودة لنوجوما الذي سيرحل عن ( فن الحكم أو عربته غدا )، وحتى لا نظلم هذا المحارب القديم (من مواليد 12 مايو 1929 وأمهنوا كوندوبولو على قيد الحياة بحسابات مايو 2004 يوم أن شاركته الاحتفاء بعيد ميلاده)، ففي سجل الرجل انجازات لا تخطئها العين، وفي مقدمتها أن ناميبيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي ينص دستورها على حماية البيئة، ويحمل مواد كثيرة في آليات تنفيذ تلك الحماية وتطبيقها وهي مطبقة تماما، كما أن نسبة الأمية فيها من أدنى النسب في العالم الثالث، وتزيد نسبة من يقرأون ويكتبون من الرجال والنساء معا على 85 في المائة.

بين محاسن الرجل أيضا أنه كائن أخلاقي بتوصيف الفلاسفة، رغم أن بعض المواقف قد جرت عليه وبالا في عواصم الغرب، وأشهرها قوله أمام حشود من الطلاب بأنه قد وجه الشرطة باعتقال وسجن، بل وترحيل الشواذ من الرجال والنساء، وأنه لا يريد أيا منهم في بلاده، مما أثار عليه عمدة برلين، فيما تظاهر الشواذ ضده فاضطر الى تخفيف موقفه لاحقا.

ولكن، وعلى وجه العموم، لا يمكن لنوجوما أن يكون استثناء في حركة التاريخ الأفريقي مع السلطة والتشبث بها ثم تركها، فهو إن لم تعرف عنه سيرة فساد بعد، وربما يعود ذلك لإمساكه بمقاليد الرئاسة في الدولة والحزب، فمن يدري، فربما تلاحقه المساءلة ويأتيه «زمن المشاكل» يوم أن يترك رئاسة الحزب، ويوم أن يأتي رئيس غير هذا الرئيس، الذي يعده كثيرون ظلا له، أو ربما تلاحقه معاني الاسم الذي تخيرته له أسرته (شافيهوما ومعناها زمن المشاكل).