طالباني.. دور أكبر من كرسي الرئاسة

استجار به المنصب الرئاسي الأول ليرمم معادلة أنهكتها شهوات السلطات المتعاقبة

TT

تحاول الكتل السياسية العراقية اليوم أن توظّف الورقة الكردية لصالحها بوسائل متفاوتة بين المرونة والتشدد. فالقضية الكردية هي اليوم مثلما كانت بالأمس محشورة بين الجميع. ولا ينكر جلال طالباني هذا الواقع، إلا أنه حاول جاهداً تحويل هذه الورقة من «لعبة بيد الآخرين إلى لاعب مع الآخرين»، ومن قضية في مهب رياح التغييرات السياسية الداخلية إلى قوة محلية يحسب الجميع حسابها، إن في الحل أو في الربط.

إنه الرجل الذي استجار به المنصب الرئاسي الأول ليرمم معادلة أنهكتها شهوات السلطات المتعاقبة، فدوره أكبر من كرسي الرئاسة، وجاذبيته تتسع لخارطة الوطن، وبصماته حاضرة في أوراق ومشاريع جمّة، لكن مهماته صعبة، بل قاتلة، عندما يتعلق الأمر في كنس ركام الماضي وإعادة إطلاق أحلام البناء. يتقلّب «مام» (العم) جلال مع متغيرات السياسة الداخلية والإقليمية والدولية على حد سواء، فطوراً يضع «قناع» الاعتدال، وطوراً آخر يظهر بوجه التطرف، سلماً كان أم حرباً، فهو يجمع في شخصه بعدي التناقض المزدوج، حسب الظروف وحسبما تقتضي المصلحة.

صورته حاضرة دائماً، إن في ساحات الوغى أو في التسويات السياسية. يحسب لكل شيء حسابه، فلا يربط مصيره بمصير حليف محلي أو إقليمي أو دولي قد ينقلب ذات يوم خصماً، ويجسّد صراعُه أو تفاهمُه مع قائمة «الائتلاف العراقي الموحد» خير نموذج لسياسات التحالفات البديلة. يجيد بمهارة اختيار ساعته، ففي الوقت الذي يجد نفسه في موقع ضعيف، يعتبر أن أي تسوية تقع في خانة «الابتزاز»، وإذا كان موقعه عكس ذلك يعتبر كل حل معروض ليس «مقدساً»، فهو لا يتراجع عندما يكون ضعيفاً ولا يغفر عندما يكون قوياً، فكل حل معروض له ثمن، ولكن ليس كل ما هو معروض عليه يقبله بأي ثمن كان. محام ومناضل، يجمع في شخصه «حكمة» الشيوخ و«حماسة» الشباب، وهو موهوب بطاقة جدلية قلّ مثيلها، سريع البديهة، ولا تعوزه الحيلة عندما يريد التملص من موقف أو التهرب من قرار، لكنه من طينة السياسيين الذين يدافعون عن قضيتهم بكل إيمان وحزم.

ولد «مام» جلال 1933 في كلكان قرب سد دوكان. وفي مرحلة دراسته الابتدائية والمتوسطة توجّب عليه الانتقال إلى كوي سنجق، ومن ثم إلى أربيل وكركوك لاستكمال دراسته الثانوية في مدارسهما. في هذه الحقبة، برز جلال، وهو لا يزال بعد على مقاعد الدراسة الأولية، كموجّه لجمعية سريّة للطلبة الأكراد، وهي إحدى الجمعيات التي انتشرت آنذاك كالفطر انعكاساً لتزايد الوعي القومي الكردي. ولم يكد يمضي وقت طويل حتى انتسب جلال إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة الملا مصطفى بارزاني، وفي 1951 انتخب عضواً في اللجنة المركزية للحزب.

كانت لدى جلال رغبة جامحة لاستكمال دراسته الجامعية في فرع كان ينأى به بعيداً، ولو نسبياً، عن اهتماماته السياسية، حيث تقدّم بطلب للانتساب إلى كلية الطب، لكن طلبه قوبل بالرفض ربما بسبب نشاطاته السياسية المعادية للنظام الملكي.

لكن «الرفض» لم يكن مطلقاً، على أي حال، ولم تغلق في وجهه بوابات جامعة بغداد، ففي عام 1953 انتسب إلى كلية الحقوق، وظل داعية لا تعوزه الحماسة في الدفاع عن حق الأكراد في الممارسة السياسية، وكان آنذاك سكرتيراً عاماً لاتحاد الطلبة الكردستاني. ويبدو أن السلطة ضاقت ذرعاً بنشاطاته فتحركت لإلقاء القبض عليه عام 1956، لكنه استطاع الإفلات من قبضتها والاختفاء عن الأنظار اتقاء لما لا تحمد عقباه. عاد طالباني بعد انقلاب يوليو (تموز) 1958 إلى مقاعد الدراسة من جديد، وانغمس في الوقت ذاته في مهنة الصحافة المحببة لديه، فاستطاع في فترة زمنية قياسية أن يرأس تحرير صحيفتي «خه بات» (النضال) و«كردستان»، فكانتا ساحة مفتوحة لطرح أفكار الحزب الديمقراطي الكردستاني وتطلعاته السياسية.

إثر تخرجه 1959 استدعي جلال للخدمة العسكرية، فكانت بمثابة تجربة أولية للانخراط اللاحق في قوات «البيشمركة». وبالفعل، مع انكسار التحالف بين الأكراد ونظام عبد الكريم قاسم في أواخر 1960 لم يمهل طالباني مزيداً من الوقت كي يختط له مستقبلاً مختلفاً. ففي سبتمبر (أيلول) 1961 اندلعت المعارك بين الطرفين ووجد جلال نفسه مسؤولاً عسكرياً عن جبهتي كركوك والسليمانية في المواجهة مع قوات الحكومة المركزية. وفي مارس (آذار) 1962 قاد هجوماً مضاداً لاستعادة منطقة شربازهر من أيدي القوات الحكومية.

ظلت المعارك مستمرة بين الطرفين، حتى بعد سقوط نظام عبد الكريم قاسم، فتتالت اتفاقات الهدنة ووقف النار والمقترحات الحكومية لحل المسألة، فيما قاد جلال بنفسه 1963 جولة مباحثات مع الرئيس العراقي الأسبق عبد السلام عارف، لكن أياً من الطرفين لم يقتنع بوجهة الطرف الآخر. وربما لم يكن عارف ولا الملا مصطفى بارزاني قادرين على التفاوض والخروج باتفاق حقيقي من دون حصول انقلاب عسكري في بغداد، أو نشوب خلاف مع التيار الوطني المديني بين الأكراد، خصوصاً الفريق الذي يمثله جلال وإبراهيم أحمد وكان أقوى نفوذاً في جنوب كردستان، لا سيما في السليمانية.

ولما وصل البعث إلى السلطة مرة ثانية في 1968 كانت المسألة الكردية ما زالت من دون حل. في هذا الشأن، اختطت السلطة المركزية الجديدة في بغداد سياسة تقضي بإبراز جلال طالباني وجناحه في الحزب الديمقراطي الكردستاني، كبديل للقيادة البارزانية. وفي القتال الذي دار بين الجماعتين الكرديتين المتنافستين ساندت السلطة المركزية في بغداد جناح طالباني، لكن بارزاني سرعان ما حسم الموقف لصالحه، وإن ليس بصورة مطلقة.

في خلال ذلك، لجأت السلطة في بغداد إلى تغيير استراتيجيتها والتفاوض مع بارزاني، وأثمر التفاوض، كما هو معروف، على توقيع اتفاق الحكم الذاتي للأكراد الذي كان في نظر جلال بمثابة تفريط بالحقوق الكردية الثابتة، لأن الاتفاق استبعد مدينة كركوك من منطقة الحكم الذاتي، التي كان يعتبرها بمثابة مدينة «القدس» بالنسبة للفلسطينيين.

وبانهيار الحركة الكردية المسلحة في مارس (آذار) 1975، كان على جلال أن يمتص نتائج الكارثة سريعاً وأن يتحرك مع عدد من الكادرات الكردية باتجاه إقامة تنظيم جديد يبتعد قدر الإمكان عن الولاءات العائلية والعشائرية، فكان انبثاق الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامته هذه المرة.

وبالطبع كان للتغيير الذي عصف بإيران الشاه في 1979 أثر في صعود الاتحاد الوطني الكردستاني وزعيمه جلال طالباني إلى واجهة الأحداث في منطقة متاخمة أساساً للحدود مع إيران، فبدأ جلال بإعادة تنظيم المقاومة الكردية المسلحة والقيام بعمليات ضد القوات النظامية العراقية التي كانت معظم قطاعاتها متورطة في الحرب مع إيران.

في 1982، شعر طالباني أن ثمة انقلاباً في ميزان القوى العسكري على جبهة الحرب لغير مصلحة القيادة العراقية، وأن ثمة إمكانية حقيقية للاستفادة من الضعف الطارئ على الموقف العسكري العراقي، فبدأ مفاوضات مع السلطة المركزية في بغداد دامت حتى 1984، ولكنها أدت عملياً إلى إضعاف نفوذ طالباني من دون نتائج مأمولة، ذلك أن النظام في بغداد، على الرغم من خوضه الحرب مع إيران، لم يكن مستعداً للقبول بالتنازلات، لا سيما أن وضعه العسكري على الجبهة كان في تحسن مستمر خلال مفاوضاته مع طالباني، مما زاده تصلباً، وانقطعت المفاوضات بين الطرفين.

عاد طالباني إلى قواعده مرة أخرى خالي الوفاض ليشهد عملية «الأنفال» في صيف وخريف 1988، التي أسفرت عن محو المئات من القرى الكردية وسكانها من الوجود. وبعد هزيمة النظام العراقي في 1991 أمام قوات التحالف الدولي وإقامة «المنطقة الآمنة» للأكراد في الشمال، برز جلال طالباني أحد قطبي الحركة الكردية المعاصرة.

وبالفعل، فقد منح هذا الوضع القيادة الكردية فرصة التقاط الأنفاس والسعي الحثيث إلى إقامة نوع من المؤسسات التمثيلية في هذه المنطقة، فانتخب طالباني، أحد قطبي الزعامة الكردية، في أول انتخابات تشريعية جرت في مايو (أيار) 1992 باعتباره ممثلاً شرعياً للمطامح الكردية في ترسيخ مؤسسات الحكم الذاتي في كردستان العراق بعيداً عن تدخل السلطة المركزية في بغداد.

بيد أن الأحداث التي أعقبت هذا التاريخ كانت كئيبة بالنسبة لطالباني إلى حد بعيد. ففي 1994 انفجر صراع مسلح مرير مع الفصيل الرئيسي الآخر (الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني)، أسفر عن سقوط أكثر من ثلاثة آلاف قتيل. وفي ظل استمرار النزاع المسلح، لم تتلكأ إدارة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون عن القيام بعدد من الخطوات لإطفاء هذا النزاع، فتوصل الطرفان الكرديان في 1998 إلى اتفاق في واشنطن يقضي بوقف إطلاق النار، كما قسّمت المنطقة الكردية بموجبه إلى قسمين، أحدهما تديره حكومة بارزاني ومقرها أربيل، والثاني تديره حكومة طالباني ومقرها السليمانية. وفي مطلع 2000، اتفق الطرفان على تطبيع العلاقات وتفعيل البرلمان الكردي الذي أصابه الشلل لمدة تزيد عن ست سنوات، استعداداً لمرحلة جديدة في تاريخ العراق. ومهما يكن من أمر، فإن جلال كان وما يزال مصاباً بحجمه، يجتذب الأضواء أينما حل ويفتقده الجميع حين يغيب، وبالتالي لم تكن رحلته إلى الرئاسة سهلة.

* كاتب وأكاديمي عراقي مقيم في فيينا