السير نحو الحرية.. رقصا

كيف حكى وحارب السود عذاباتهم.. بالموسيقى؟

TT

قبل أغاني وموسيقى البلوز والجاز والسول او الروحانيات والراب (هيب هوب)، جاء السود الى أميركا يغنون في سفن الرقيق أغاني افريقية على اصوات طبول، وكان بعضهم ينشد أناشيد إسلامية. ويقال ان عشرة في المائة من الرقيق كانوا مسلمين، وجاء معهم قادة دينيون مثل عمر بن سعيد الذي ولد على نهر السنغال 1770، واحضر الى أميركا بالقوة 1807، وأصبح مملوكا لتاجر قطن مسيحي هو جيمس اوين، في ولاية نورث كارولينا. وكان يتكلم العربية ويقرأ القرآن وينشد، مع اخوانه، اناشيد اسلامية على انغام الطبل. وفي 1819، وبناء على طلب أوين، أرسل له فرانسيس كي، الذي وضع كلمات وموسيقى «راية النجوم اللامعة» (النشيد الوطني الأميركي) نسخة عربية من الانجيل، أملا في ان يتحول ابن سعيد من الاسلام الى المسيحية. ويعتقد ان ابن سعيد ظل مسلما حتى توفي، لأنه كتب ذلك، وكتب آيات من القران على هوامش الكتاب المقدس، والكتاب موجود في مكتبة كلية ديفدسون في ولاية نورث كارولينا.

معظم أغاني الرقيق السود كانت بلهجات افريقية، وكان فيها طرب ومرح ولهو، على عكس أغاني الحزن والكآبة التي غنوها بعد ان اصبحوا رقيقا. ولم يمض وقت طويل، وخوفا من ان يثوروا، وحتى يتفرغوا للعمل في الحقول، أخذ أسيادهم طبولهم، ومنعوهم من الغناء والحديث بلهجاتهم الافريقية، وعلموهم المسيحية واللغة الإنجليزية.

وفي غياب الطبول، اصبحت اغانيهم صوتية واقل اعتمادا على الالآت الموسيقية. وظهرت اغاني جميلة توارثتها الاجيال حتى اليوم مثل «كنت ألعب في الغابة، وجاء البيض وأخذوني، وعندما اكبر سأعود الى الغابة». ومثل «أنا لم اقل. الطفل الأبيض قال. لن أكون رئيسا لاميركا»، وأيضا «الطفل الأبيض لا يقلق. أنا أسجن. هو حر، وأنا لست حرا». و«الطفل الأبيض قال: الحرية والعدل للجميع. وأنا ضحكت.. ها، ها، ها».

كما ظهرت أغان تعبر بالخصوص عن عذابات النساء الملونات مثل «لدي عذابين، عذاب الحقول، وعذاب البيوت»، ومثل «ولدت ثلاثة عشرة بنتا وولدا. كلهم باعوهم رقيقا. لم يبق معي سوى الله». ومثل «قالوا انت امرأة، ولا حقوق لك، لأن المسيح لم يكن امراة. كيف يقولون ذلك؟ اليست ام المسيح امرأة؟». ولم تنتشر الاغاني الدينية (سول) إلا وسط الجيلين الثاني والثالث من الرقيق، وذلك بسبب انقسام السادة البيض حول تنصيرهم، اذ ان بعض البيض ايد تنصير الزنوج لمحو الاسلام واديان الغابة الافريقية، ولاثبات اخلاصهم للمسيحية بالتبشير لها، وللتكفير عن ذنب امتلاك الرقيق. وفي الجانب الآخر، عارض بيض اخرين التنصير بسبب الخوف من ان يتعلم الرقيق العدل والمساواة من الانجيل، ويتمرودا، كما عارض آخرون التنصير لاعتقادهم بأن السود ليسوا بشرا أساسا.

لكن اتجاه التنصير حقق النجاح، وكان فرصة للرقيق ليبنوا كنائس خاصة بهم، فيها يجتمعون، ويتعبدون، ويغنون الأغاني الدينية. ركزت الأغاني الدينية (سول) على الأمل والخلاص، مثل «الله سيفتحها علينا، بطريقة ما». ومثل «في يديك ياربي اليوم اضع الغد». ومثل «أنت صخرة خلاصي، انت قوة حياتي، انت امل غدي».

رغم ان أغاني البلوز ظهرت مع وصول الرقيق الى أميركا، لكنها انتشرت بعد قرار الرئيس أبراهام لنكولن بتحريرهم 1863 بعد الحرب الأهلية بين ولايات الشمال والجنوب، وذلك لأكثر من سبب: أولا، تأكد للسود ان البيض منقسمين الى قسمين: معارضين للرقيق، ومؤيدين له. وان المعارضين، مثلهم مثل السود، قلقون وحزينون، وربما كئيبون. ثانيا، ان تحرير السود فتح الباب امامهم ليقولوا ما يريدون، لان أسيادهم في الماضي كانوا يمنعوهم من أغاني البلوز التي تتضمن الشكوى والاحتجاج، رغم انهم لم يمنعوهم من الاغاني الدينية (سول). ثالثا، نال السود حريتهم نظريا، لكنهم ظلوا يعانون عمليا من التفرقة العنصرية، وهذا خيب املهم، واضاف مشكلة جديدة الى مشاكلهم القديمة. رابعا، بعد ان اصبح السود يتجولون في حرية من ولاية الى ولاية، ظهر وسطهم الفنانون المحترفون، يحمل كل واحد قيثارة بدائية او بوقا، ويتجول من مكان الى آخر، يغنى اغاني البلوز.

ويبدو أن الموسيقى والأغاني لدى السود أخذت مكانتها كايقونة فى حركة النضال ضد العنصرية تدريجيا، ففي البداية، اى فى القرن الثامن والتاسع عشر وبسبب غياب أي أساليب أخرى للتعبير الجماعي كانت الأغاني هي الطريقة الوحيدة المتاحة للتعبير عن الحزن والأسى من العبودية وما ترتب عليها من انتهاك كامل للحقوق الانسانية. غير انه ومنذ مطلع القرن العشرين اكتشف السود التأثير الاستثنائي للموسيقى فى نضالهم اليومي لتغيير القوانين، فتحولت الموسيقي الى اداة سياسية ليس فقط لحشد تأييد الملونين فى كل اميركا، بل ايضا لحشد تأييد البيض وجماعات الدفاع عن حقوق الانسان فى العالم كله. وهكذا ظهرت الاغاني الانفرادية، بعد الاغاني الدينية الجماعية، التي يحكي فيها كل فنان همومه. مثل بي بي كينغ الذي غنى «انتهى عرض الليل. المدينة نائمة. وأنا مفقود في هذه الدنيا. دنيا عميقة وباردة. أتجول من مكان الى مكان. تحملني الريح. أريد ان اهبط. او تقف الدنيا. انا غريب وخائف. في عالم غريب وخائف». وهو الذي غنى ايضا «احارب تنين بسيف صفيح. اعرف اني لن انتصر. حاولت كثيرا. آه، كم حاولت كثيرا. لكني لن انتصر». هذه الاغنية وغيرها جسدت اتجاها في أغاني السود وهي أنها لا تقتصر، وربما لا تستهدف عن عمد توصيل رسالة سياسية، بل انها موسيقى تحتفي اولا واخيرا بالموسيقى ذاتها. فهي موسيقى جميلة عميقة دافقة بالنغمات والالحان والاصوات. وفي بداية القرن العشرين، ظهرت اول طبقة وسطى سوداء، وكانت تسمى «الزنجي الجديد» وسط الجيل الثاني للسود المحررين. وأصبحت أغانى البلوز مكتوبة وتغنى مع آلات موسيقية متطورة.

وساعدت الحرب العالمية الاولى على ظهور «صحوة» السود في اميركا، وذلك بعد «الهجرة الثانية»، التي لم تكن اجبارية مثل الاولى، خلال وبعد الحرب الى مدن الشمال، مثل واشنطن ونيويورك وشيكاغو وسنت لويس وديترويت. لكن هذه المرة شملت «الصحوة» الفقراء الذين تركوا حقول القطن واتجهوا شمالا نحو مصانع الصلب والسيارات، حاملين معهم موسيقى آلامهم. ووسط حياة المدن والعمارات الشاهقة، بدأ السود يغنون لفقر ليس مثل فقر الريف: للعطالة، والجريمة، والزحام، والدولار، وتفكك العائلة، وتغير الاخلاق. وساعدت الحرب، ايضا، على «عالمية» قضية السود، بعد ان حارب فيها عشرات الآلاف من الاميركيين السود، رغم استمرار التفرقة العنصرية وسط الجنود. وقابل سود اميركا سودا وسمرا من العالم الثالث، وعرفوا ان قضية الحرية «عالمية». ساعدت الحرب، ايضا، على اطلاع السود على آلات موسيقية اروبية لم تكن منتشرة في اميركا، وعلى آلات الموسيقي العسكرية الحماسية ذات الصوت العالي، هذا بالاضافة الى التاثير الفرنسي في ولاية لويزيا، كانت جزءا من مستعمرة فرنسية في اميركا الشمالية.

وتحولت بعض اغاني البلوز الفردية الهادئة الى اغاني صخب استمر حتى الصباح في ملاهي نيو اورلينز في ولاية لويزيا حتى اليوم. ولأن التفرقة العنصرية كانت مستمرة، اختلط جاز الحب بجاز السياسة. وغنى سايل جونسون «اغني للحرية. لا اغني لشخص او حادث او مكان او زمان. اغني للحرية». وغنى سولومون بيرك «التغيير قادم لا محال. التغيير قادم لا محال». وغنى جيمس كار «قطار الحرية غادر محطة الماضي الى محطة المستقبل. غادر محطة العذاب الى محطة المستقبل». وغنى شاي لايت «استحلفكم الله، يا من عندكم كل المال، يامن عندكم كل السلطة، اعطوني حريتي».

لكن معظم اغاني الجاز كانت، ولا تزال، أغاني مرح صاخبة، ويعتبر لويس آرمسترونغ من اشهر فنانيها. غنى مثلا «تظهر الشمس وأنت معها. يظهر القمر وأنت معه. أنام وانت في احلامي. اريدك، اريدك الآن». وغنى «الاشجار خضراء، والورود حمراء، والسماء زرقاء، والسحاب ابيض، وقوس قزح فيه كل الالوان، وارى الناس يحيون بعضهم البعض، وكأن كل واحد يقول للآخر: احبك».

كان ذلك »فن الصحوة» الذي بدأته الحرب العالمية الاولى، ثم دفعته الحرب العالمية الثانية. والذي كتب عنه الاديب الاسود جيمس بولدوين في قصة «اصعد الى الجبل واحكي له قصتك»، وقال فيها ان الموسيقى «كانت الاكل والشراب والادب». وكتبت عنه الشاعرة السوداء مايا انغلو، وقالت ان زوجها الابيض السابق كان لا يهتم بالدين كثيرا، لكنها تمردت عليه، وذهبت الى كنائس السود «للبحث عن هويتي»، وكتبت كتاب «اعرف لماذا يغنى الطائر وهو في القفص».

وكتبت عنه توني موريسون، السوداء التي نالت جائزة نوبل في الأدب، في قصة «جاز» عن «الناس الذين كانوا يلبسون ملابس لامعة ومتناقضة، فساتين حمراء، واحذية صفراء، وقبعات زرقاء، ووجوه سوداء، ويخرجون في الليل ليسهروا، ويقامروا، ويلعنوا، ويقتلوا. وعكست موسيقاهم ذلك».

وكتب عنه هنري غيتز، رئيس قسم الدراسات الاميركية الافريقية في جامعة هارفارد، وقال ان وفاة والدته ذكرته «اننا نعيش عالما أسود، ونذهب الى مدارس سوداء، ونتزوج سودا، وننجب سودا، ونطلق سودا، ونخون ازواجنا مع سود، ونقتل سودا، وعندما نموت، ندفن في مقابر السود. الا يجب ان تكون موسيقانا خاصة بنا؟». هنري غيتز لم يقل «ونذهب الى طبيب اسنان اسود»، لكن المغنية دينا واشنطن غنت بعد الحرب العالمية الثانية اغنية «كابة لونغ جون» عن طبيب اسنانها «قال لى افتحي فمك، وعندما فتحته، وضع فيه آلته، وعندما وضعها، تألمت، وعندما تألمت، أعطاني حقنة، وقال: انتم النساء لا تقدرن على تحمل الألم». وكانت تلك بداية ظاهرة المرأة التي تغني اغاني البلوز، بعد ان احتكرها الرجال. وكانت بداية ظاهرة التلميحات الجنسية. وكانت بداية الاستفادة من الاعلام. ثم انضم الى الركب فنانون بيض غنوا اغاني السود، وساعدوهم على طريق الموسيقى الحديثة، مثل الفيس بريسلي، ملك موسيقى روك آند رول، والذي اغضب كثيرا من الاميركيين، حتى قبل ان يغني موسيقى السود. وقال بعض الناس ان حركات بريسلي وهو يغني «تنشر الاباحية، وتهدد القيم العائلية».

واعتبر كثير من البيض في ولايات الجنوب ان أغاني بريسلي وروك آند رول تساعد على الاختلاط بين البيض والسود. وقالوا ان «لا بد من مواجهة خطر الثقافة السوداء على العائلة الاميركية». وعقدت لجنة في الكونغرس جلسة تحقيق عن «تأثير موسيقى روك آند رول على العائلة والشباب»، لكن السود كانوا الهدف الحقيقي من التحقيق. وارسل المغني فرانك سيناترا خطاب تأييد الى اللجنة، وذلك لسببين: اولا، لأنه لم يكن متحمسا للسود مثل حماس بريسلي، وثانيا، لأن اسطوانات بريسلي كانت تنافس اسطواناته.