التحولات في الفضاء السوفياتي السابق .. مصاعب تغيير الجلد

لماذا تتحرك الجمهوريات «الآسيوية» بطريقة مختلفة عن الجمهوريات «الأوروبية»

TT

الطريقة التي انتقلت بها السلطة في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق الى الحكام «الجدد ـ القدامى» كانت تحمل في طياتها بذور الثورة والانقلاب الذي سرعان ما تحقق في ثلاث من هذه الجمهوريات. فإلى جانب تشابه الظروف والاوضاع في هذه الجمهوريات لم يكن بوريس يلتسين وادوارد شيفارنادزه واسلام كريموف ونورسلطان نزاربايف وعسكر اكايف «دعاة ديمقراطية»، بقدر ما كانوا «دعاة لتغيير السلطة القائمة» التي ارادها معظمهم سبيلا الى تحقيق مآرب شخصية. ولعل استعراض محاضر جلسات «نوفواوجاريوفو»، اسم ضاحية في موسكو عقد فيها الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف اجتماعات اعداد نص المعاهدة الاتحادية الجديدة 1991، يكشف بجلاء ان قيادات الجمهوريات السوفياتية ولا سيما زعماء بلدان آسيا الوسطى لم تكن تستهدف اعلاء الديمقراطية نهجا وفكرة. ولذا وبعيدا عن التعميم يمكن استعراض نقاط الاختلاف والتحول نحو الديمقراطية بين جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق من خلال تناول تباين خصائص الاوضاع وسمات التحولات في بلدان الاتحاد السوفياتي السابق بمجموعاتها الاربع: الاولى، جمهوريات البلطيق وهي استونيا ولاتفيا وليتوانيا. الثانية، الجمهوريات السلافية الاوروبية وهي روسيا الاتحادية واوكرانيا وبيلاروس (روسيا البيضاء) ومولدوفا. الثالثة، مجموعة بلدان ما وراء القوقاز ويمكن ادراج ارمينيا وجورجيا واذربيجان ضمنها. أما المجموعة الرابعة والاخيرة فجمهوريات آسيا الوسطى وهي اوزبكستان وقزقستان وتاجيكستان وقيرغيزستان وتركمنستان.

تقسيم جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق على النحو السالف محاولة لتفسير «الاختلافات فى انماط التغيير السياسي» في هذه الجمهوريات خلال العشرين عاما الاخيرة أي منذ تولي ميخائيل غورباتشوف مقاليد السلطة في الكرملين في مارس 1985، اذ ان التحولات بدأت في هذه الجمهوريات منذ ذلك التاريخ وليس فقط مطلع التسعينيات. كان غورباتشوف قد اعلن البيريسترويكا رمزا للتغيير، وسرعان ما اصبحت اشارة البدء للتحركات الجماهيرية والصحوة القومية. وفيما تشكلت الجبهات القومية مثل «سايوديس» في ليتوانيا و«روخ» في اوكرانيا تأييدا للبيريسترويكا وشعارا لتسريع وتيرة التغيير حددت جمهوريات البلطيق هدفها صوب الاستقلال الذي سرعان ما اعلنته صراحة في مؤتمر نواب الشعب في ربيع عام 1989 . ولذا لم يكن غريبا ان ترفض هذه الجمهوريات الثلاث المشاركة في كل المحافل الحزبية والسوفياتية، فيما أعلنت رفضها اجراء استفتاء مارس 1991 حول الموقف من بقاء الاتحاد السوفياتي دولة اتحادية، الى جانب امتناع قادتها عن المشاركة في مداولات واجتماعات صياغة المعاهدة الاتحادية ما جعلها اول من حصل على الاستقلال في سبتمبر 1991 أي قبل الاعلان الرسمي عن نهاية الاتحاد السوفياتي في ديسمبر من نفس العام. وبذا يقتصر الحديث على بقية الجمهوريات التي تغيب عنها ارمينيا وجورجيا ومولدوفا وهي التي سبق ان جنحت نحو الاستقلال قبل الاعلان رسميا عن الانهيار الاتحاد السوفياتي وإن عادت لتشارك في تأسيس ونشاط منظمة بلدان الكومنولث التي كانت أقرب الى لجنة تصفية التركة واقتسام الارث السوفياتي.

وعبر هذه النبذة التاريخية السريعة نصل الى ان قيادات هذه الجمهوريات كانت أول من «غيّر رأيه وجلده» رغم أنهم جميعا كانوا قد خرجوا من معطف الحزب الشيوعي السوفياتي ويتحملون عمليا وتاريخيا مسؤولية ما آلت اليه هذه الجمهوريات من اوضاع كان غياب الديمقراطية اهم ما يميزها. خرج هؤلاء عن الاجماع بعد ما صار واضحا ان القيادة في الكرملين تسلم مواقعها لرئيس روسيا الاتحادية بوريس يلتسين في اعقاب تمرده على غورباتشوف الذي سبق ان جاء به من الاورال الى موسكو. رفض هؤلاء تباعا وبعد انقلاب اغسطس 1991 انفراد يلتسين بالقرار فراحوا يعلنون استقلال جمهورياتهم اعتبارا من ذلك التاريخ وكانت قيرغيزستان آخر هذه الجمهوريات حيث اعلنت استقلالها في 31 اغسطس 1991.

وراح كل من الزعماء الشيوعيين السابقين في هذه الجمهوريات يبحث عما يوطد مواقعه بعيدا عما لحق بغورباتشوف. انصرفوا الى ما سبق ان افتقدوه من سطوة وثراء بعيدا عن رقابة وهيمنة الكرملين. غير ان مسار التحولات في هذه الجمهوريات لم يكن متماثلا لاسباب تاريخية وجغرافية، ومنها اختلاف مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي في جمهوريات اسيا الوسطى التي انضمت متأخرة الى الامبراطورية الروسية السابقة. ورغم كل ما يقال عن «استعباد الامبراطورية» لهذه الجمهوريات، فان الواقع والتاريخ يقولان انه لولا ظهور انماط التطور الاوروبية، ووصول الكوادر الفنية والتقنية الروسية في هذه المناطق لظلت هذه الجمهوريات على مستوى واحد من التطور على النحو الذي تعيشه اليوم افغانستان التي تشترك معها في اللغة والدين والتركيبة العرقية. فضلا عن أن هناك جمهوريات لم تظهر اصلا الى الوجود إلا مع العهد السوفياتي مثل تاجيكستان، التي ظهرت كدولة مستقلة 1929 ، وقيرغيزيا التي حصلت على وضعيتها كجمهورية مستقلة في عام 1936 ، وكانتا من المناطق او الامارات التابعة لما كان يسمى بمنطقة «تركستان» الموطن التاريخي للشعوب والاقوام التركية. ولعل ما قيل حول ان اختلاف نتائج الثورتين في جورجيا واوكرانيا عما حدث ويحدث اليوم في قيرغيزستان يتلخص في بضع كلمات: اوكرانيا وجورجيا جمهوريتان اوروبيتان اما قيرغيزستان فدولة اسيوية. اذا جرت التطورات في الجمهوريات السوفياتية «الاوروبية» على نحو مغاير لما مرت به في جمهوريات «آسيا الوسطى»، في الوقت الذي ظلت فيه الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية في هذه الجمهوريات رهنا بما تتمتع به من ثروات وقدرات اقتصادية.. واذا كانت التغييرات التي جرت في روسيا قد طالت كل مناحي الحياة بما فيها السياسية، فانها لم تكن كذلك في الجمهوريات «الاسيوية»، وبعض الجمهوريات الاخرى «الاوروبية» موقعا مثل بيلاروس، التي غاب عنها الطابع الديمقراطي وغلبت فيها اساليب الحكم الشمولية وتسلط حكم الفرد. ولعل استعراض اسماء الرؤساء في الجمهوريات «الاسيوية» قد يكفي دليلا على استمرار نفس القيادات الحزبية الشيوعية منذ ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي 1991 حتى اليوم، مثل اسلام كريموف في اوزبكستان، ونورسلطان نزار بايف في قزقستان، وعسكر أكايف الرئيس المخلوع في قيرغيزستان. بل وبلغ الامر في هذه الجمهوريات حد تغيير الدساتير ومحاولات البقاء في السلطة عبر استفتاءات صورية لتقنين استمرار هذه القيادات في الحكم تحت سمع وبصر، وأحيانا بمباركة، الدوائر والعواصم الغربية التي كانت تستقبل كل هؤلاء الرؤساء بترحاب مبالغ فيه في محاولة لاسترضائهم وضمان ولائهم بعيدا عن الكرملين. أما في روسيا فقد جرت الاحداث على وتيرة سريعة ساهمت الدوائر والمؤسسات الغربية أيضا في توجيه مسارها. واستطاعت المجموعة الديمقراطية الغربية الهوى بزعامة بوريس يلتسين تحقيق ما أرادته على صعيد التخلص من نفوذ الشيوعيين وتفكيك آليات الدولة وبيع ثرواتها بأثمان رمزية الى حفنة من المغامرين تحت ستار «سياسات الخصخصة». وحين واجهت القلة من اثرياء روسيا الجدد وزعمائها ممن اعلنوا الديمقراطية نهجا وتوجها أخطار احتمالات الردة، بسبب فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية، اختار بوريس يلتسين قصف البرلمان في اكتوبر (تشرين اول) 1993 سبيلا الى استعادة السيطرة على مقاليد الامور.

وفي الوقت الذي عاد فيه ليواجه احتمالات الرحيل بعد انحسار شعبيته، ولم تكن نسبتها اكثر من 5 % في مطلع عام 1996 ، توجه الى الغرب واثرياء روسيا الجدد من اساطين المال والاعمال طلبا للدعم والمعونة التي حصل عليهما من خلال تزوير انتخابات الجولة الثانية خصما من رصيد ممثل الحزب الشيوعي الروسي جينادي زيوغانوف في يوليو 1996. ومع ذلك توالت المصائب التي كان منها ظهور الحركات الانفصالية داخل روسيا الاتحادية واندلاع الحرب الشيشانية الاولى والثانية ثم الانهيار المالي في اغسطس 1998 الى جانب انفجار الازمات الاقتصادية والاجتماعية وتدهور الاوضاع المعيشية وانحسار مكانة موسكو في الساحتين الاقليمية والدولية. ولم يجد يلتسين مناصا من اختيار فلاديمير بوتين وتعيينه رئيسا للحكومة ثم قائما بأعمال الرئيس في نهاية عام 1999 كي يكون ضمانا يقيه احتمالات ملاحقته ومصادرة ما حصل عليه وصحبه من امتيازات وثروات. وفي حال روسيا يمكن القول إن التغيير، ورغما عن بضع كبوات هنا وهناك، اتسم بمحاولات اضفاء الطابع الديمقراطي على ما تتخذه السلطة من قرارات ابان سنوات التسعينيات وما يحق معه ان نقرن الديمقراطية بالكثير مما تحقق في روسيا التي تشهد مد واتساع نطاق نشاط مؤسسات المجتمع المدني بدعم مباشرـ وغير مباشر من جانب العديد من المنظمات والمؤسسات الديمقراطية الغربية. وتلك سمات تبدو مماثلة لما حدث في اوكرانيا وجورجيا المجاورتين. غير ان روسيا البيضاء، وهي ايضا من الجمهوريات الاوروبية، ينتهج فيها النظام نهجا اكثر شمولية، اما مولدوفا فذات قيادة شيوعية غربية الهوى.

أما تركمنستان في آسيا الوسطى فقد ساهمت الثروة الهائلة من غاز ونفط في تهدئة مشاعر وسخط الجماهير ممن يفضلون الحياة الوادعة بأقل قدر من المكاسب الاقتصادية والاجتماعية، عن المطالبة بحقوق الانسان والديمقراطية في الوقت الذي يغض فيه الغرب الطرف عما يجري هناك من تجاوزات على هذه الاصعدة ومنها اعتقال وتعذيب الكثيرين من رموز المعارضة التي سبق ان خرجت من معطف ذات السلطة. وكانت المعارضة قد نشطت بعض الشيء خلال العامين الاخيرين بدون اهتمام يُذكر من جانب الدوائر الديمقراطية الروسية والغربية. ويبقى السؤال عن المدى الذي يمكن ان تصل اليه الاوساط المعارضة في الجمهوريات المجاورة في آسيا الوسطى؟ بين الثلاثي الآسيوي الاوسط، اي تاجيكستان واوزبكستان وقزقستان، تبدو الاخيرة الاكثر احتمالا لمواجهة اوضاع مماثلة لما تشهده قيرغيزستان، وان تظل الاوضاع في الجمهوريتين الأخريين تربة مناسبة للانتفاضة والثورة التي لن تكون بمنأى عن اعمال فوضوية على ما جرى مؤخرا في قيرغيزستان. ولذا فقد كان طبيعيا ان يثير تسارع وتيرة الاحداث في قيرغيزستان حفيظة القيادة في قزقستان التي تخشى على ما يبدو تحول المعارضة الى الفعل والحركة. وقد شهدت الاسابيع القليلة الماضية تحركا غير عادي من جانب التنظيمات الموالية للسلطة مثل الحزب الزراعي وحركة المجتمع المدني التي تحاول التنسيق والوحدة فيما بينها في مواجهة المد المعارض واحتمالات «الثورة». ولذا لم يكن غريبا ان يسارع قادة هذه التنظيمات المعروفة بولائها للسلطة باعلان انها «على استعداد لحمل السلاح دفاعا عن استقلال وسيادة وحرية خيار الشعب». وقد جاءت هذه التصريحات ردا على بيان فصائل المعارضة الذي ايدت فيه «الثورة» في قيرغيزستان.

ويتوقع المراقبون انتفاضة مماثلة في قزقستان خلال فترة الاستعدادات للانتخابات الرئاسية في نهاية هذا العام او العام المقبل. وكان الكثيرون من رموز السلطة، ومنهم النائب العام ورئيس البرلمان ووزراء الطاقة والاعلام والطوارئ وآخرون، قد انتقلوا الى صدارة صفوف المعارضة. ويقول البعض ان المعارضة في قزقستان لن تواجه الوضع المزري الذي واجهته قيرغيزستان لاسباب، اولها وجود التنسيق بين رموز المعارضة الذين يملكون خبرات ادارة الدولة والاقتصاد والاعلام في جمهورية تملك من الثروات الطبيعية والقدرات الاقتصادية ما يجعلها في غير حاجة الى الاستثمارات الاجنبية خلال السنوات العشر القريبة. غير ان هناك من يقول ان الموقع الجغرافي المتاخم لنقاط ساخنة مثل افغانستان والجنوب القيرغيزي ـ الاوزبكي لن يجعلها بمنأى عن اخطار التطرف الديني والعرقي، ما يفتح الباب أمام مختلف الاحتمالات. ولا نستثني في هذا الصدد أيا من اوزبكستان وتاجيكستان المجاورتين. ففي الاولى تبدو اخطار الانفجار من جانب ممثلي التنظيمات المتطرفة مماثلة لأخطار احتمالات «ثورة» الجياع في الثانية.