المغرب: سقوط وردتين من شجرة اليسار

غياب بن بركة وبن جلون أثر في مجرى التطور الديمقراطي

TT

يجوز القول، إجمالا، إن العنف السياسي، ظاهرة غير متجذرة في المجتمع المغربي. ففي حالة بروز خلافات مستعصية بين المشتغلين في الحقل السياسي، كأفراد أو ضمن تشكيلات حزبية، فإن الحملات المتبادلة، وكيل التهم من هذا الجانب وذاك، تكون في الغالب الأسلحة المستعملة بين المتعاركين. وباستقراء الفترة التي تلت استقلال المغرب عام 1956، يلاحظ أن حوادث الاغتيال والتصفيات السياسية كانت قليلة على العموم، على الرغم من أن الحركة الوطنية التي قاومت الاحتلال الأجنبي انقسمت، كما حدث في أوضاع بلدان أخرى، إلى تيارين رئيسيين وهما; الداعون إلى التفاوض مع الأجنبي وانتزاع ما يمكن أخذه منه بالحوار، وهناك القائلون إن الاستعمار لا يمكن أن يتنازل عن مصالحه وامتيازاته ونفوذه إلا بالحديد والنار. ذلك هو القانون الذي حكم حركات التحرر الوطني في الخمسينات، وهو الذي كان سبب انقسامها واندلاع حرب التصفيات بين أجنحتها وزعاماتها. هذا أمر يبدو طبيعيا، فحاملو السلاح لا يلقون أسلحتهم بسهولة، لأن درجة وعيهم الفكري أقل من خبرتهم القتالية. والمتشبعون بثقافة السلم، ينظرون بريبة إلى رفاقهم العسكريين محدودي الثقافة والخبرة السياسية. ومن المؤكد أن الحوادث القليلة (اغتيال عباس المسعدي على سبيل المثال)، التي وقعت بعيد الاستقلال، ربما تعود في الأساس إلى نفس السبب، رغم ما يكتنف بعض جوانبها من غموض مستمر، فلا يستبعد أن يكون بعض الضحايا نتيجة خلافات شخصية أو أحقاد لم يكونوا مدركين مدى قوتها، فنكل بهم خصومهم وألبسوا جرائمهم رداء الخلاف السياسي. وقعت في المغرب جريمتان سياسيتان كبيرتان، غطت على ما عداهما، ذهب ضحيتهما قياديان من اليسار، وتحديدا من حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية; أولهما الزعيم المهدي بن بركة الذي اختطف نهارا، في قلب العاصمة الفرنسية يوم 29 أكتوبر (تشرين اول) 1965 ولم يظهر له أثر ولا رواية مقنعة عن المصير الذي سيق إليه عنوة، او متى تم اغتياله وأين، وبأية وسيلة، وفي أية بقعة من الارض ووري جثمانه؟ ما يزال التحقيق مستمرا. أما الحادث الثاني، فهو ذلك الذي غيب أحد السائرين على نفس خط بن بركة السياسي والآيديولوجي، عمر بن جلون، عضو المكتب السياسي في حزب الاتحاد الاشتراكي ومدير صحيفته، «المحرر» الذي سقط مضرجا بدمائه أمام منزله وفي واضحة النهار، نتيجة طعنات كالها له قاتل يدعي بعد أن خرج من السجن أنه ذهب إلى القتيل ليحاوره. الاغتيالان، خلفا آثارا سياسية بينة، انعكست في المقام الأول على صعيد العلاقة بين النظام والمعارضة التقدمية التي قادها خلال ما يقرب من أربعة عقود الحزب الذي انتمى إليه بن بركة وبن جلون، كما عرقلا الاصلاحات السياسية. حمَّل المنتسبون للحزب، أعضاء وقيادة، الدولة المغربية مسؤولية إزهاق روحي بن بركة وبن جلون. كانت التهمة صريحة في حالة الاول، لكون القضاء الفرنسي دان في حينه مسؤولين أمنيين مغاربة، بل إن الجنرال ديغول، ظل غاضبا من موقف النظام في المغرب واعتبر حمايته للضالعين في الجريمة إهانة لفرنسا. وبالتالي فقد انعكست آثار الاغتيال سلبا على علاقة المغرب بفرنسا في فترة، مثلما ألقى بظلالها على العلاقة بين الحزب اليساري الأقوى والقصر في المغرب، إلى أن وقع التصالح التاريخي بينهما عام 1998، حين ترأس الحكومة أحد رفاق بن بركة في المنفى، المحامي المدافع عن ملفه أمام القضاء الفرنسي عبد الرحمن اليوسفي، رئيس الوزراء السابق. كما تضاعفت شكوك الاشتراكيين المغاربة في النظام بعد اغتيال بن جلون، وحامت الشبهات مجددا حوله، ولم يبددها كون العدالة عاقبت الجناة بعد أن اتضح أنهم استعملوا من قبل جهة دينية غير مرتبطة بالنظام، من دون استبعاد فرضية التقاء المصالح في التخلص من سياسي مزعج. وما زالت جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، تحمل في الصفحة الأولى، يوميا، صورة بن جلون تذكيرا بجريمة اغتياله عام 1975، ولا يزال الأوفياء لذكرى المهدي بن بركة يستحضرون روحه، كل سنة في نفس يوم الاختطاف. منهم من يذهب إلى مكان الجريمة، أمام مقهى «ليَ» بحي السان جرمان بباريس، حيث اصبح اسم بن بركة اسم شارع قريب تكريما واعتذارا من فرنسا.