الجزائر: العنف بين الثورتين

TT

تزدهر ظاهرة الاغتيال السياسي خصوصاً في المناطق او الدول التي لم تستقر سياسياً واجتماعياً واقتصادياً بشكل كامل ولم تصل بعد الى ادراك جدوى وأهمية القضاء والادوات الاخرى السلمية لممارسة السياسة والاختلاف. وعند وضع الجزائر كدراسة حالة، يمكننا ملاحظة ان ظاهرة الاغتيال السياسي انتشرت خلال ثورة الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي (1954ـ1962) بحكم غياب الأطر القانونية المنظمة حينها، قبل ان تخفت تدريجياً خلال مرحلة بناء الدولة، لكنها ما فتئت وعادت مع بروز الاضطرابات السياسية في البلاد في التسعينات، او مرحلة «الحرب القذرة» كما سماها البعض، وتعود ثانية، في المرحلة الراهنة الى التلاشي مع عودة الاستقرار وانتهاج سياسة «المصالحة مع الذات».

ففي مرحلة «الجزائر الثورة» او الثورة المباركة، كان طبيعياً ان تبرز الاختلافات بين السياسي والعسكري، في الداخل والخارج، وتحدث بين رفقاء السلاح عمليات اغتيال تنفذ احيانا كتصفية حسابات وأحيانا اخرى اعتقاداً من هذا الطرف او ذاك بأن الأمر يصب في خدمة الثورة. كانت بالفعل «ثورة القرن» لكنها كانت «ثورة بشر» لم تنج من الصراعات القائمة على الولاءات القبلية والجهوية والاختلافات الآيديولوجية. ربما تكون الحالة الأبرز هي تصفية عبان رمضان، أحد أبرز قادة الثورة ومهندس مؤتمر الصومام (عقد بين 20 اغسطس (آب) و10 سبتمبر(أيلول) 1956 في منطقة القبائل ووضع أسساً للثورة ولدولة ما بعد الاستقلال)، على ايدي رفاقه في ديسمبر (كانون الأول) 1957. يورد المؤرخون ان عبان رمضان قتل بسبب تفضيله المفاوضات على العمل المسلح. ويذكرون ايضاً ان رمضان كان مسؤولاً عن منطقة الجزائر العاصمة، وهو الذي هندس لمعركة الجزائر العاصمة (1957) ولأول إضراب ناجح فيها. وعندما انتقل الى تونس رأت القيادة انه أصبح يمثل خطراً على الثورة، فقررت استدراجه الى الحدود المغربية حيث قتل شنقاً هناك. ويقال ايضاً ان رمضان أثار عليه غضبة «قوى الخارج» المؤلفة من مقاتلي جبهة التحرير وبيروقراطييها الموجودين في تونس، وفي مقدمتهم هواري بومدين، بإصراره على ان يكون زمام حرب الاستقلال بيد «قوى الداخل»، فتم اغتياله. ونفس طريقة الاستدراج تلك استخدمت مع الرائد الزبير الذي يقول المؤرخون ان قيادات الثورة تمكنت من تصفيته بعد ان انتقل الى المغرب لمحاسبته ومطالبته بتوفير السلاح والذخيرة للمجاهدين في الداخل. بعد استقلال البلاد مباشرة، تعرض محمد خميستي الى عملية اغتيال بالرصاص، يوم 11 ابريل (نيسان) 1962 وتوفي متأثراً بجراحه في 5 مايو (أيار) من نفس السنة في الجزائر العاصمة. وقيل ان وزير خارجية اول حكومة جزائرية قتل على ايدي رجل مختل انتحر لاحقاً في زنزانته. لكن روايات اخرى تقول ان قتله كانت بدوافع علاقات شخصية. وفي حين يستبعد بعض المؤرخين الاعتبارات السياسية عن حالة خميستي، فانهم مُجمِعون على ان دوافع اغتيال محمد خيضر (في مدريد 1967)، وكريم بلقاسم (في فرانكفورت 1970)، اللذين كانا ضمن «مجموعة التسعة» المفجرة للثورة، كانت سياسية. فبعد استقلال البلاد، اختلف كريم بلقاسم مع الرئيس احمد بن بيلا وقرر الابتعاد عن السياسة والاهتمام بتجارة المجوهرات. لكن بعد الانقلاب الذي دبره هواري بومدين على بن بيلا في 19 يونيو (حزيران) 1965 هاجر كريم بلقاسم وحاول المعارضة من الخارج ونقل عنه قوله علنا ان «سبع سنوات من الاستقلال كانت أسوأ من سبع سنوات من الحرب». ويعتقد ان ذلك كان سبب الحكم عليه بالموت غيابياً بعد إدانته بالخيانة والتعاون مع قوى اجنبية. وربما تكون اجهزة استخبارات نظام بومدين اكثر جهة وُجه اليها اللوم في اغتيال بلقاسم وخيضر، خصوصاً عندما جرى ربط قضيتهما بمحاولة الانقلاب الفاشلة التي دبرها رئيس أركان الجيش الطاهر الزبيري اواخر 1967 . بعد وفاة بومدين في 27 ديسمبر 1978، تولى الحكم الشاذلي بن جديد الذي بدأ يعزز موقعه تدريجياً، فقرر منتصف الثمانينات بعد ان وثق حكمه، إطلاق سراح السجناء السياسيين والخاضعين للاقامة الجبرية، بمن فيهم بن بيلا، الذي كان قيد الاحتجاز منذ فترة حكم بومدين. وعفا ايضاً عن الآخرين بمن فيهم الزبيري، كما دعا قادة جبهة التحرير والذين كانوا في المنفى للعودة الى البلاد، لكن ذلك الانفتاح المقرون داخلياً بتدهور تدريجي لأسعار النفط وخارجياً بتطورات كانت تقترب من انتهاء الحرب الباردة، كان له ثمن آخر، تمثل في دخول الجزائر مرحلة التعددية السياسية غير المدروسة ومن ثم العنف والعنف المضاد، وبذلك عادت ظاهرة الاغتيالات تؤرق مرة اخرى حياة الجزائريين. هذا الاطار الجديد للعنف الأعمى حصد هذه المرة رئيس دولة، وهو محمد بوضياف، أحد قادة الثورة التاريخيين والذي قتل بعد ستة اشهر من عودته من منفاه المغربي الى بلده يوم 29 يونيو 1992، وهو يلقي خطاباً في عنابة (شرق الجزائر). وقد وجه الاتهام في قضية اغتيال بوضياف الى ضابط يدعى بومعرافي لمبارك الذي أدين وحكم عليه بالإعدام إلا ان الحكم لم ينفذ، مثله مثل باقي احكام الاعدام المعلق تنفيذها منذ عام 1993. وحالة مقتل بوضياف كانت شبيهة بحالة مقتل قاصدي مرباح، الذي اغتيل في 21 اغسطس 1993 في كمين نصب له بمنطقة بومرداس (شرق العاصمة). ومرباح اغتيل، من قبل إسلاميين حسبما تقول الرواية الرسمية، وفي صدره اكبر قدر من المعلومات عن جزائر الاستقلال. فقد كان واحداً من مؤسسي الأجهزة الأمنية إبان الثورة وظل يشغل جهاز الاستخبارات لفترة طويلة من عمر الجزائر المستقلة. وبعد ان زاد الوضع الأمني تدهوراً، وبات الجزائريون يُقتلون زرافات ووحدانا، لم يكن من الصعب فهم اغتيال الشيخ محمد بوسليماني (نائب الشيخ محفوظ نحناح) على ايدي ارهابيين خطفوه من منزله في البليدة في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1993، وقتلوه بعد نحو شهر بعد ان رفض منحهم فتوى تجيز تصرفاتهم. ولم يكن مفاجئاً أيضاً تعرض الرجل الثالث في الجبهة الاسلامية للانقاذ عبد القادر حشاني، المعروف باعتداله، للقتل في 2 نوفمبر 1999، وهو يهم بمغادرة عيادة لطبيب الأسنان في العاصمة الجزائرية، وذلك بعد عامين على خروجه من السجن. وطالت الاغتيالات حتى شخصيات نافذة كان يعتقد أنها تحظى بحماية كبيرة، منهم عبد الحق بن حمودة، العدو اللدود للتيار الإسلامي وقائد اكبر نقابة عمالية في البلاد، (الاتحاد العام للعمال الجزائريين)، والذي اغتيل في 28 يناير (كانون الثاني) عام 1997 عندما كان يستعد لمغادرة مكتبه في قلب العاصمة الجزائرية، وقد اعلنت «الجبهة الإسلامية للجهاد المسلح» (منظمة يقودها مثقفون إسلاميون رفعوا السلاح ضد السلطة) مسؤوليتها عن ذلك الاعتداء. ومنذ قدوم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الى الحكم عام 1999 وتبنيه سياسة «المصالحة» بمفهومها الأشمل والذي يذهب أبعد من العفو عن المتورطين في أعمال العنف خلال التسعينات، استعاد الجزائريون أنفاسهم ثانية وأغلقوا حتى الآن ملف الاغتيالات السياسية.