مستقبل المربع الكردي

انتخاب طالباني طرح سؤالا بين إيران وسورية وتركيا

TT

«اعتاد جدي القول انه ولد كرديا في دولة حرة. ثم وصل العثمانيون وقالوا لجدي «أنت عثماني»، ولذا اصبح عثمانيا. ومع سقوط الامبراطورية العثمانية، اصبح تركيا. ثم غادر الاتراك المنطقة واصبح كرديا مرة اخرى في مملكة الشيخ محمود ملك الاكراد. ثم وصل البريطانيون، واصبح والدي رعية لصاحب الجلالة وتعلم بعض الكلمات الانجليزية. ثم أقيمت الدولة العراقية، وبالتالي اصبح والدي عراقيا، ولكن هذه الكلمة الجديدة العراق، ظلت دائما كلمة غامضة بالنسبة له».

* هونر سالم، المخرج السينمائي الكردي.

* عندما تشكلت الدولة العصرية المركزية بدلا من الامبراطوريات في الشرق الاوسط في بداية العشرينات من القرن الماضي، اصبح الاكراد بلا دولة خاصة بهم. اصبحوا اقلية داخل التجمعات السياسية الجديدة التي سيطر عليها الأتراك والفرس، ونمطان من القومية العربية.

وأدى فرض نظام الدولة الجديدة هذا، بايديولوجياته الجديدة والتوجه نحو المركزية، والتجانس العرقي واللغوي، الى خلق ظروف مختلفة تمام الاختلاف بالنسبة للاكراد الذين لم تصبح لديهم دولة. وكان هذا تغييرا دراميا للوضع الذي كان عليه الامر طوال عدة مئات من السنين عندما لم تكن للمناطق الكردية حدود واضحة خاضعة للحراسة. وكان الاكراد، مثلهم مثل غيرهم من الاقليات في الامبراطوريتين العثمانية والفارسية، يخضعون الى سيطرة «بعيدة» غير منتظمة، وكانوا يمارسون نشاطات عبر الحدود وبالتالي كان يمكنهم وبسهولة الاستمتاع بدرجة نسبية من الحكم الاقليمي.

وبالرغم من ان عدة حكومات مختلفة في تركيا وايران والعراق وسورية اتخذت منطلقات مختلفة في رفضها او اعترافها الجزئي بوجود الاكراد كشعب له حقوق سياسية مشروعة، ومطالب سياسية واجتماعية وامنية، فإن الرفض المستمر لكردستان الكبرى ومحاولات منع ظهور مثل هذه الهوية ارتبط بالامن القومي لهذه الدول. وبالتالي، فإن الاكراد حرموا من أي فرصة ذات معنى لمناقشة مفاهيم مختلفة لكردستان بما في ذلك ترتيبات سلمية محتملة.

وفي الوقت الذي تعترف فيه إيران بوجود اقليم كردي، فإنه يمثل واحدا على ثمانية من المناطق الكردية في ايران. وفي العراق اعترف دستور 1958 المؤقت بوجود قومية كردية الى جانب العرب، ولكن تأسيس اقليم كردي مستقل في 1974 لم يحقق توقعات الاكراد وأدى الى سلسلة من المواجهات العسكرية بين الحكومة البعثية آنذاك والاكراد. وحتى فترة قريبة، كان إنكار وجود الاكراد واللغة الكردية في الجمهورية التركية ممارسة متكررة من قبل السياسيين والعسكريين ورجال الامن والبيروقراطية، بالاضافة الى وسائل الاعلام والمواطنين العاديين. وفي سورية، يعامل الاكراد كـ «ضيوف» بدون حقوق سياسية او قانونية او اجتماعية متساوية مع الباقين. الآن هناك على الأقل فرصتان متوفرتان في العراق وتركيا مع امكانيتين مستقبليتين في سورية وإيران يتقرر من خلالهما التعامل مع أكراد المنطقة بشكل مختلف. يمكن القول إن تحويل العراق من دولة مركزية مبنية على التمييز العرقي والطائفي إلى دولة فيدرالية ظل احدا من المطالب الكردية الأساسية منذ 1992 وخلال الفترة التي أعقبت سقوط نظام صدام حسين. وكان مجرد القبول بالفكرة في منطقة لا تمتلك تقاليد في إجراء المفاوضات، بحد ذاته إنجازا مثيرا للدهشة. واعترف «قانون إدارة الدولة» المؤقت في العراق بوجود منطقة كردستان على الرغم من وجود شكوك تتعلق بحدودها مما جعل الصياغة الأخيرة للمنطقة متروكا كي يحددها الدستور الدائم. كذلك اعترف هذا الدستور العراقي المؤقت بالمؤسسات الكردية التي نمت منذ 1992 مثل المجلس الوطني الكردستاني وحكومة كردستان المحلية. كذلك ضمنت فقرات من القانون حقوق الإنسان، هذا ما يعد إنجازا مهما في بلد سادت فيه الإبادات الجماعية والإعدامات السريعة واختفاء الأفراد، وكان الأكراد جراء ذلك الضحايا الرئيسيين خلال معظم تاريخ العراق الحديث.

ويمكن القول إن الاتفاق على اعتبار الأمن الداخلي لكردستان هو من صلاحيات الحكومة الكردية المحلية إنجاز مهم بسبب سياسات الحكومات المركزية السابقة وحقيقة أن سيطرة الحكومة المحلية على قوات الشرطة والأمن ستوفر ضمانا للاكراد.

بعكس إيران، طورت تركيا عددا من المؤسسات والآليات الديمقراطية، إضافة إلى علاقات طويلة الأمد مع الاتحاد الأوروبي ومنظمات ديمقراطية غربية أخرى وكل ذلك جعل البلد قادرا على إدارة حوار ديمقراطي وتبادل الأفكار. ووفر تقدم تركيا صوب العضوية في الاتحاد الأوروبي فرصة فريدة لتنفيذ إصلاح نظامي عميق.

ولدى تركيا عدة خيارات لإنشاء سياسة جديدة باتجاه الأكراد. وأحد هذه الخيارات يتمثل في مزيج من «الدمقرطة» و«اللامركزية». وضمن هذا السياق، فإن آلية اللامركزية ستحول السلطات إلى وحدات إدارية بدون الاعتراف بالهويات العرقية للكيانات الاجتماعية داخل تركيا. وتدعم عدة حجج هذا الطرح منها أن الدولة التركية التقليدية ذات طبيعة مركزية ونموذجها متمثل بالنموذج الفرنسي، إضافة إلى الخوف من تفكك تركيا. لكن نماذج مثل اسبانيا واليونان يقدمان حجة مضادة لحجج كهذه.

أما الترتيب الثاني فهو يجمع ما بين الدمقرطة واللامركزية مع الاعتراف بالجماعات العرقية. وسيعتمد الولاء للدولة ومؤسساتها على فكرة المواطنَة الديمقراطية وفيها تقوم المصالح والقيم والضرورات المشتركة لا بإبقاء لحمة الدولة ومؤسساتها معا فقط بل تعزز الأواصر بين الجماعات الاثنية لصالحها جميعا. أما الخيار الثالث بالنسبة لتركيا فهو محاولة الاستفادة من الثورة الإصلاحية التي وقعت في اسبانيا عام 1978. إذ أصبحت اسبانيا ما بعد فرانكو تتبنى أكثر فأكثر نظاما فيدراليا بدون تسميته بهذا الاسم. واعترف سياسيو ما بعد فرانكو بالحاجة إلى دمج الديمقراطية مع اللامركزية مع الاعتراف بالهويات العرقية التاريخية لكل منطقة في اسبانيا. وأنشأ دستور اسبانيا 1978 نظاما سياسيا ديمقراطيا لا مركزيا. وأفضل ما في هذا الدستور هو الاعتراف بالحاجة إلى بناء حكومات محلية مع الاعتراف بالحاجة إلى وحدة «الأمة» الاسبانية (التي هي بالأحرى الدولة الاسبانية)، إضافة إلى حق الحكم الذاتي للقوميات والمناطق المختلفة. فحق الإدارة الذاتية من خلال البلديات والمناطق المحلية والكيانات ذات الحكم الذاتي قد قوى معا الديمقراطية والاستقرار في اسبانيا. ان النموذج الرابع الذي يشكل مثالا جيدا على اعادة هيكلة النظام السياسي هو مثال بلجيكا، على الرغم من ان هذا النموذج قد يعتبر راديكاليا جدا من وجهة نظر الدولة المركزية التركية المعروفة بازدرائها الشديد للاقليات. وتعتمد الفيدرالية البلجيكية على ثلاث مناطق محددة هي المنطقة الفلمنكية ومنطقة العاصمة بروكسل ومنطقة والوان الفرنسية، وثلاث جاليات من ناحية اللغة هي الجالية الفلمنكية والجالية الفرنسية والجالية الالمانية، ويجري توزيع السلطات بين الحكومة الفيدرالية ونوعين آخرين من الحكومات، وبينما تكون الحكومات الثلاث مسؤولة رئيسيا عن الشؤون الاقتصادية الاقليمية، فان الجاليات الثلاث غير الاقليمية مسؤولة رئيسيا عن الشؤون اللغوية والثقافية.

خلال العقود القليلة الماضية، لم يكن وضع الاكراد في ايران معروفا على نطاق واسع من جانب العالم الخارجي، بسبب التغييرات الدراماتيكية في الاوضاع السياسية الايرانية والتوترات بين ايران والغرب، والعزلة المفروضة ذاتيا على ايران حتى عام 1997 (عندما اصبح محمد خاتمي رئيسا).

وارتبط التحول الرئيسي للاكراد في ايران بفرض الاسلام الشيعي كنظام سياسي آيديولوجي. وحولت هيمنة الفرس الشيعة على النظام السياسي الاكراد الى اقلية بالمعنيين القومي والديني. ومنذ عام 1997 ظلت الآمال ترتبط بالاصلاحيين المحيطين بخاتمي الذي ربما سيسهل الظروف لإنجاز بعض التغييرات الاساسية في النظام السياسي الايراني. وفي هذه العملية، فان الاكراد ربما يمسكون بالفرصة لتحسين ظروفهم، وبالتالي تقاسم بعض ثمار النظام السياسي الاصلاحي.

وكان كثير من الاكراد مستعدين للمشاركة في عملية الاصلاح. وخلال السنوات القليلة الماضية اعطي اكراد ايران بعضا من المسؤوليات الادارية ودرجة محدودة من الحرية الثقافية واللغوية، فضلا عن بعض الظروف الايجابية في ما يتعلق بطباعة الصحف والمجلات ومحطات الاذاعة والتلفزيون، ولكن هذه تبقى في اطار ما تسمح به السلطات وما تراه مناسبا لقواعد القضايا السياسية الاسلامية التي حددتها النخبة الفارسية الشيعية.

وحتى الانتخابات البرلمانية في فبراير (شباط) 2004 كانت كتلة كردية من المشرعين في المجلس (البرلمان) الايراني قادرة على التعبير عن بعض المطالب الكردية، ولكن ذلك لم يغير التوجه السياسي العام لسياسات الهيمنة الفارسية تجاه الاكراد.

ان الحجم الصغير للاقلية الكردية ومشاركة سورية في الشراكة الاوروبية المتوسطية لا بد ان توفر فرصة للمطالبة بمزيد من الاصلاحات الملموسة، فالاكراد وحدهم ليسوا، ولم يكونوا ابدا، في موقع يؤهلهم لممارسة ضغوط من اجل تغييرات جذرية.

والاتحاد الاوروبي، في اطار معايير الشراكة الاوروبية المتوسطية، مؤهل تماما لربط العلاقات التجارية وبرامج المساعدة الموجهة الى القطاعات المختلفة من اجل تحسين اوضاع حقوق الاكراد.

وتغيير وضع ما يقرب من ربع مليون من الاكراد المحرومين من المواطنة. ويمكن ايضا المطالبة بالغاء الكثير من القوانين التي تمنع الاكراد من تملك الارض والزواج القانوني والتعليم باللغة الكردية، والاستفادة من الرعاية الصحية العامة.

* أستاذ في معهد دراسات الشرق الأوسط جامعة جنوب الدنمارك