السودان: إنقاذ «الإنقاذ»

TT

عندما جاء نظام «الإنقاذ الوطني» الى السودان في 30 يونيو (حزيران) 1989، كان يهدف بحسب بيان «الانقلاب» الاول، الى «انقاذ السودانيين»، مما اسماه بـ«فوضى الاحزاب، وانقسام البلاد وتمزقها»، ولكن يبدو بعد نحو 16 عاما من تجربته المستمرة، انه في حاجة ماسة وعاجلة الى من ينقذه. واذا بدأنا كما يقولون «من الآخر»، فان نظام الانقاذ الوطني الان في ورطة لا يحسده عليها احد، بعد قرار مجلس الامن رقم 1593 الذي اقر محاكمة 51 مسؤولا سودانيا، متهمين بارتكاب جرائم حرب في اقليم دارفور، امام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.

وقد نرى مدى عمق الازمة السودانية ومدى جدية المجتمع الدولي تجاهها عندما نعلم ان مجلس الامن اصدر خلال الاشهر العشر الاخيرة 10 قرارات جميعها حول دارفور، وهو رقم قياسي لم يحطمه سوى «الانقاذ». اعتراض الحكومة على القرار الاخير وهو الاخطر، ورفضها تنفيذه لا ينقذها من الورطة بل يدخلها في سلسلة اجراءات شهدنا مثيلها عندما رفضت ليبيا تسليم رجلين متهمين بتفجير لوكربي لمحاكمتهما في لاهاي عام 1989، ولكنها بعد أكثر من عشر سنوات من الرفض، والحصار والعقوبات، التي تجرع قسوتها الشعب الليبي وحده، عادت طرابلس لتلبي المطالب الدولية، فسلمت الرجلين الى لاهاي وتكبدت اكثر من عشر مليارات دولار دفعها الشعب الليبي لإغلاق الملف. ولكن هل اغلق الملف بالكامل؟.. الاجابة لا.. حيث لا تزال الولايات المتحدة تضع ليبيا في قوائم الدول الراعية للارهاب.

الخيار الاخر امام الانقاذ الوطني هو تسليم المتهمين الى لاهاي، وهو طريق يبدو انه ينهي المسألة سريعا، ويقصر أجلها، لكنه لن يخرجها من الورطة سالمة. وكما قالت مصادر رفيعة تحدثت لـ«الشرق الاوسط» اخيرا في القاهرة فان القائمة تتضمن شخصيات حكومية كبيرة، فهل ستضمن الخرطوم ان لا تتحول الاتهامات الموجهة اساسا الى هؤلاء الافراد بصفتهم الشخصية، الى اتهامات الى الحكومة، اذا ما تفوه احدهم، وقال ان ما قام به كان اوامر من مسؤولين حكوميين. اذا حدث ذلك وهو محتمل جدا فان الاتهامات ستتحول الى النظام، وهي ورطة ستكون عواقبها وخيمة جدا، ما قد يفتح باب التحقيقات واسعا ليشمل عشرات آخرين، و«لن يسلم الشرف الرفيع (حينها) من الأذى». وفي الصورة الخلفية فقد ادلى بعض المشتبه فيهم وخاصة من زعماء الجنجويد بتصريحات نقلتها مواقع في الانترنت يقولون فيها انه في حالة تسليمهم فلن «يلزموا الصمت» وبعضهم قال ان ما قاموا «كان بموجب اوامر». هناك طريق ثالث لكنه ايضا محفوف بالمخاطر وغير مضمون العواقب، وهي ان تلعب الحكومة «لعبة دبلوماسية» على حبل رفيع يعتمد على طرفين: الاول، لدى اميركا التي ترفض حتى الان التوقيع على انشاء المحكمة خوفا من ان يقع جنودها يوما تحت طائلتها. لكن واشنطن حصلت على اعفاء واضح في القرار يستثني مواطنيها من الملاحقة وهو ما عبر عنه سفير السودان في الولايات المتحدة بالقول ان «اصحاب العضلات هم الذين يحصلون على اعفاءات»، وفي الطرف الاخر من الخيط لا نجد غير اميركا نفسها، بشركاتها الكبرى، التي تريد نصيب الاسد من استثمارات السودان الجديد في الجنوب وربما في الغرب ايضا. لكن كسب اميركا في هذه المعركة يظل حلما بعيد المنال وقد قدم النظام كل ما لديه وباع «كل ملفاته» القديمة. كل ذلك يعد افتراضات لا قيمة لها امام قرار واضح المعالم، ولا شيء في الافق يمكن ان يوقفه، خاصة في ظل وجود نظام مثل الانقاذ لم يقدم يوما «سبتا» ليجد «احداُ» في انتظاره، وتعد أخطاؤه اكبر من أي ثمن يمكن ان يدفعه.

واذا وضعنا «الإنقاذ الوطني» في الميزان، فان كثيرا من المراقبين السياسيين والمحللين يقولون انه لا توجد حسنات للنظام قد تشفع له. ويقولون ان النظام الذي يتجه الى تحطيم الرقم القياسي في السلطة وهو الرقم الذي سجله نميري في السابق (15 عاما و10اشهر و10 ايام)، برر وصوله الى السلطة بقوله ان «الاحزاب شر، والتعددية ضلالة»، وألغى اتفاقية سلام الميرغني/ قرنق، وأطلق مشروعه الحضاري، وفعل ما فعل. لكنه عاد بعد 15 عاما و6 اشهر و8 ايام، (حتى توقيع اتفاقية السلام في نيروبي 9 يناير 2005) الى نقطة الصفر ذاتها في 1989، ليعلن قبوله بكل شيء رفضه في السابق. قبل بالاحزاب والتعددية السياسية والدينية، ووعد بإعادة الحريات، واعاد صياغة الدستور بما يكفل للجميع المشاركة فيها، وكأن ما حدث في تلك الاعوام كان «كورساً تدريبياً» لتعليم قيادات الانقاذ فن السياسة والدبلوماسية. يقول مسؤولون سياسيون معارضون ان ما خسره السودان في عهد الانقاذ لا يقدر بثمن ولا مال، ولا وقت. راح الالاف ضحايا في الجنوب ودارفور، وشرد الالاف من وظائفهم بدعوى الصالح العام، وضاع مستقبل اجيال. ثورة التعليم تمخضت دمارا على المدارس وتدنى مستوى الطلاب الى الحضيض، والكل الان يسعى الى المدارس الخاصة التي انتشرت كالنار في الهشيم، تفاديا للمستوى المتدني لمدارس الحكومة. وكذا الحال في مجالات الصحة والبيئة، حيث يسقط الناس بالالاف من جراء امراض البيئة والتلوث والبعوض، وباتت المستشفيات بلا دواء او شفاء الا لمن يدفع. وذهبت شعارات «نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع»، ادراج الرياح، وباتت كالحكم التاريخية. اما الحركة الاسلامية التي كان يطمح قادتها الى ان تتبوأ المقدمة بين الاحزاب حينما حلت ثالثة في اخر انتخابات اعتزلها الجنوبيون، انقسمت الى اشلاء. وبات من لا يتعدى عددهم اصابع اليد الواحدة يتحكمون في اقدارها حسب شهود من أهلها. وامتد الفساد ليضرب بأطنابه في كل مرافق الدولة. ويبدي كثيرون اندهاشهم من حديث البعض عن انجازات النظام، الذين ذكروا من بينها السلام في الجنوب، واستخراج البترول، وعودة العلاقات مع الجيران وعن الشوارع «المسفلتة»، وعن مصنع جياد، وخزان مروي، وعن المدارس والمستشفيات المنتشرة، يقولون «كل تلك الانجازات صحيحة. ولكن حكومة الميرغني او المهدي 1989 كان يمكن ان تحقق كل تلك الانجازات بلا ضحايا وفي زمن وجيز». فالميرغنى حقق السلام اساسا عام 1988 وبلا شروط وجزاءات مثل ما حدث الان. وكان يمكنها ان تستخرج البترول لان استخراجه لم يكن يحتاج الى عبقرية او ذكاء بل الى استقرار في الجنوب. ولم تكن في حاجة الى اعادة العلاقات مع دول الجوار، لانها لم تكن مقطوعة ابداً، وكان السودان يسمى وقتها «رجل التضامن العربي». وكان يمكنها بناء الجسور والسدود والمصانع وبأقل الاسعار، قبل انهيار الجنيه السوداني ليصبح الان (2500 في مقابل الدولار). نعم هي انجازات تسجل للانقاذ. ولكن بحساب الزمن فقد تأخرت جدا واخرت الشعب السوداني لدرجة يصعب معها اللحاق بالاخرين من دول الجوار الشمالي الا بشق الانفس، وبجهد مضاعف مئات المرات. فقياس سرعة الزمن باتت لا تقدر بالمقاييس القديمة. السودان الان امام مفترق طرق، والانقاذ التي جاءت للانقاذ تحتاج فعلا الان الى من ينقذها، وينقذ السودانيين منها.