الفقراء.. والأفقر منهم

65 مليون فقير عربي لا نعرف عناوينهم وتوزيع الدخل لا قلته هو المشكلة

TT

خمس سكان العالم يعيشون في فقر مدقع. هذا ما تقوله لنا بيانات البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. يحتوي عالمنا العربي على بعض من هؤلاء الفقراء. فمن هم هؤلاء؟ وأين يعيشون؟ ومن يخفف وطأة الفاقة عنهم؟ وهل يزداد عددهم؟ لدينا من الفقراء حوالي 65 مليونا بحسب بيانات برنامج الامم المتحدة الانمائي. ربما يكون عددهم أكثر من ذلك. فبيانات الفقر العربية هي من أسوأ بيانات الفقر في العالم. بعبارة أخرى، العرب هم أقل الأمم معرفة بفقرائهم. والحق أن المسؤولية هنا لا تقع على المجتمعات العربية بقدر ما تقع على الدول الماسكة بزمام الأمور فيها. والدليل على ذلك هو ما أشارت إليه دراسة عن الفقر قام بها معز دريد وأشرفت عليها الأمم المتحدة. أكدت هذه الدراسة على أن المجتمعات العربية تتميز بأعلى درجات التكافل الاجتماعي في العالم، فهي تنفق على فقرائها. ضعف بيانات الفقر في العالم العربي يعبر عن عدم جدية الدولة في التعامل مع هذه المشكلة. المسألة بسيطة. لكي تساعد الفقير لا بد أن تعرف له عنوان. وعنوان الفقراء العرب غير واضح. دليل آخر على أن الدولة في العالم العربي مسؤولة إلى حد كبير عن الفقر، يكمن في أن الفروق بين الطبقات في العالم العربي ـ وإن كانت كبيرة ـ فهي أقل من بقية دول العالم الثالث. أي أن الفقر في العالم العربي يأتي أساساً من سوء توزيع إنفاق الدولة. الدولة العربية لا تنفق على المحتاجين مقدار ما تنفقه دول العالم الثالث الأخرى. هي تترك ذلك للناس. والناس أعطت ما تريد أن تعطيه. البعض يميل إلى تفسير عدم اعتراف الدولة العربية بوجود الفقراء لديها بفكرة أن الثقافة السياسية السائدة تميل إلى عدم المواجهة. فعلى سبيل المثال ما زالت معظم الأوساط المصرية الرسمية تتحدث عن فئة «محدودي الدخل» وليس عن فقراء. لكن هناك بعض المؤشرات على أن الفجوة في البيانات عن الفقراء العرب آخذة في التناقص. الدولة العربية أصبحت أكثر ميلاً للاعتراف بمشكلة الفقر. هناك العديد من الدول العربية، مثل مصر وتونس والمغرب والأردن، تقوم منذ عدة سنوات بجمع بيانات دورية عن الفقر في مجتمعاتها بالتعاون مع مؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي. المملكة العربية السعودية ايضا تعترف بمشكلة الفقر وأعطت إشارة لا تخطئها عين بأن أعلى مستويات الدولة تولي اهتماماً خاصة بهذه المشكلة، وذلك حين قام الأمير عبد الله، ولي العهد السعودي، بزيارة بعض الأحياء الفقيرة في الرياض في نوفمبر (تشرين الثاني) 2002، وحين أكد على ضرورة اجتثاث جذور الفقر من المجتمع. هناك اذا بعض التحسن في البيانات العربية عن الفقر، الأمر الذي يتيح للمحللين استخلاص بعض خصائص الفقراء العرب. خصوصية الفقراء العرب الفقراء في العالم يتشابهون. فعلى سبيل المثال، كلهم يميلون إلى الشعور بضعف الحيلة والاكتئاب. ولكن فقراء كل منطقة لهم صفات خاصة تنبع من الطبيعة الخاصة لمجتمعاتهم. فقراء العرب تزيد فيهم نسبة النساء والأطفال عن بقية فقراء العالم الثالث، كما تشير لذلك دراسة البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة السالفة الذكر. وهذا شيء طبيعي بما أن الدولة العربية هي أقل الدول نسبياً في رعايا الشرائح الضعيفة من سكانها، وأكثر الدول سوءاً في التعامل مع النساء. فقراء العرب أيضاً تزيد فيهم نسبة الريفيين عن المدينيين بشكل يفوق كل دول العالم الأخرى. هل ننزع للتبسيط ونقول إن الحضارة العربية عموماً كانت دائماً حضارة مدينية غير ريفية؟ أم أن الأمر يمكن تفسيره أيضاً بأن النظم العربية الحديثة الحاكمة هي نظم تنتمي للمدن أكثر بكثير من انتمائها للريف؟ على أية حال الخلاصة هنا هي أن من يريد أن يساعد الفقراء العرب فعليه أن يذهب للريف قبل المدن وأن يتوجه للنساء والأطفال قبل الرجال. يتميز الفقراء العرب بخاصية أخرى. ففقرهم لا يتأتى بالأساس من سوء دخولهم. ويجب الإشارة إلى أن الفقر في أحدث تعريفاته لا يتعلق فقط بضعف الدخل المادي، ولكن أيضاً بسوء نوعية حياة الفرد. هذا ما يمكن تسميته بالفقر الإنساني. وبهذا المعنى يصبح الإنسان فقيراً إذا افتقد للبيئة النظيفة، للماء النقي، لحرية الاختيار وللمعاملة الكريمة. بعبارة أخرى، فقراء العرب يمتلكون من المال أكثر من الحياة الكريمة، وهو الأمر الذي يميز العرب كلهم وليس فقط فقراءهم. النتيجة التي نخرج بها من ذلك أن الدول العربية باستطاعتها أن تخفض بشكل محسوس الفقر في مجتمعاتها بدون أن يكون ذلك مرتبطا بزيادة دخول الفقراء. لقد انتقل الفكر التنموي في التسعينات إلى التوسع في مؤشرات الفقر لكي يشتمل على مؤشرات أخرى غير الدخل، مثل توقع الحياة والحرية السياسية. وهو الأمر الذي يتفق مع الفطرة السليمة. فالإنسان ليس فقط حيوان يأكل ويشرب ويتناسل، لكنه كائن روحي ذو احتياجات روحية. وحقيقة أن قياس هذه الاحتياجات أصعب بكثير جداً من قياس الدخل السنوي للفرد، لا يبرر عدم محاولة الاقتراب منها حتى ولو كانت مؤشراتها غير تامة الدقة. أدى التوسع في تعريف الفقر إلى زيادة عدد العرب المصنفين في خانة الفقراء وإلى تدني ترتيب عالمنا العربي في المقارنات الدولية عن الفقر. ففي الوقت الذي ما زالت هذه المقارنات تشير إلى محدودية نسبة فقراء الدخل في المنطقة، فإنها تؤكد في الوقت ذاته على زيادة نسبة فقراء النفس، هؤلاء الذين تظهر عليهم كل أعراض الفقر، مثل سوء نوعية الحياة وقلة الحيلة، بالرغم من أن دخولهم تتيح لهم إمكانية حياة معقولة. هذه النقلة في الفكر التنموي تعكس ميل هذا الفكر إلى التقليل من طابعه الاقتصادي المادي الخالص. وهو الأمر الذي يسمح لبعض المثقفين العرب الآن بأن يوجهوا مدافعهم للدولة العربية. هذا ما رأيناه في حالة تقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر عن الجامعة العربية والأمم المتحدة والذي أحدث صدمة فكرية في المنطقة في السنتين الماضيتين، خاصة أن من صاغوه كانوا من العرب. فكتابه يكادوا يقولون الآتي: إذا كانت الدول العربية تعتقد أنها أحسن حالاً من دول العالم الثالث الأخرى لأن دخول سكانها مرتفعة، فإنها يجب أن تعلم أن الفقير ليس فقط من يعاني من ضعف الدخل. وبهذا المعنى يحتوى العالم العربي على أعلى نسب الفقر في العالم. الحديث عن الفقر في العالم العربي لا يجب أن يخفي التمايزات الشديدة بين البلدان العربية وبعضها البعض. المنطقة العربية تضم الكويت، التي يتماثل فيها متوسط الدخل السنوي للفرد (17000 دولار) مع المستوى السائد في كندا، التي تنتمي إلى نادي الأغنياء. بالإضافة إلى ذلك فهي تضم اليمن، الذي لا يتخطى فيه متوسط الدخل 260 دولاراً في السنة، وهو بذلك يقترب من مستوى سيراليون التي تنتمي إلى نادي الفقراء. اليمن يحتوى على أعلى نسب الفقراء في العالم العربي: 47%. بخلاف اليمن تقع أكثر البلدان العربية فقراً في أفريقيا جنوب الصحراء مثل جيبوتي والصومال والسودان. والحقيقة أن التمايزات بين البلاد العربية لا تنحصر فقط في نسبة الفقراء لديها ولكن أيضاً في تطور معدلات الفقر بها. هناك بلاد شهدت ميلاً لتناقص نسبة الفقر في السنوات الأخيرة مثل الأردن وتونس وهناك دول عرفت اتجاهاً معاكساً مثل الجزائر والمغرب. أما العراق فهو حالة خاصة من تفاقم الفقر بسبب الظروف البائسة والاستثنائية التي عانى منها في العقود الأخيرة. فقراء العرب تحت المجهر ولكن بغض النظر عن التمايزات داخل العالم العربي فإن الدراسات تشير إلى تفاقم مشكلة الفقر به بالمقارنة بدول العالم الثالث الأخرى باستثناء أفريقيا جنوب الصحراء. لقد حقق العرب في العقدين الأخيرين أقل معدلات النمو الاقتصادي في العالم، إذا استثنينا أفريقيا جنوب الصحراء. وهو الأمر الذي رفع من نسبة الفقر العربي من 21% عام 1990 إلى 24.4% عام 2000، كما تشير أحد دراسات البنك الدولي، والتعريف المستخدم للفقير هنا هو من يحصل على دخل يقل عن دولارين في اليوم الواحد. لكن مشكلة العرب لا تكمن فقط في ضعف معدلات نموهم الاقتصادي، ولكن أيضاً في حقيقة أن نموهم يعتمد كثيراً على مصادر ريعية مثل البترول، وهذه المصادر لا تخلق فرص عمل كثيرة. عدد العاطلين العرب يزيد، وفي ضوء زيادة معدل البطالة يصعب الحديث عن مكافحة الفقر، لأن البطالة هي المصدر الأساسي للفقر. بعبارة أخرى، تطور نسبة الفقر في العالم العربي في المرحلة القادمة سيتوقف على قدرة الدول العربية على زيادة معدلات الادخار والاستثمار بها. لا يجب أن ننسى أن العرب هم أقل الأمم ادخارا في العالم. في كل الأحوال، لم يعد بالإمكان السكوت عن ظاهرة الفقر في البلاد العربية. فبالإضافة إلى إصرار العديد من المثقفين والأكاديميين العرب على طرح المشكلة من أجل التعامل معها، هناك متغير دولي يسلط الأضواء بشدة على الفقراء العرب. فسياسة الإدارة الأميركية الحالية تقوم على اعتقاد أن الفكر المتطرف ينمو فى الاوساط الفقيرة وبسبب الفقر. وبغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا مع هذا التحليل، فيظل أن قضية الفقر والفقراء في عالمنا العربي ستكون تحت مجهر الأوساط الدولية في السنوات القادمة.

* محاضر في الاقتصاد السياسي الجامعة الأميركية ـ القاهرة