كيف نقيم تطور نظام العدالة الدولية؟

ذكرى مذابح الخمير الحمر في كمبوديا

TT

في 17 ابريل (نيسان) 1975 عندما كان مقاتلو «الخمير الحمر»، الحركة الشيوعية الكمبودية، يحتفلون بالاستيلاء على العاصمة بنوم بنه بعد اطاحة الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة، بدا أن السلام قد حل في ربوع البلاد بعد نحو خمس سنوات من الحرب الأهلية بين حكومة الجنرال لون نول والمتمردين الشيوعيين. ولكن في ذلك اليوم ذاته، بدأ واحد من أكثر الانظمة وحشية في التاريخ البشري بقيادة زعيم الخمير الحمر بول بوت. فلم يشهد العالم حجم مذابح بهذه الفداحة من قبل، للدرجة التي أدت الى اقتراح السيناتور الاميركي جورج ماكغفرن على بلاده، التدخل عسكريا في كمبوديا باسم حماية حقوق الانسان. وكان ذلك الطرح في سبعينات القرن العشرين جديدا، فلم يكن مفهوم التدخل الانساني قد تطور او نضج بأي شكل. والان وبعد مرور 30 عاما على المذابح، لم يحاكم قادة الخمير الحمر محاكمة عادلة عن الجرائم التى ارتكبوها، كما ان الكثير منهم ما زال يعيش آمنا بعيدا عن اي تهديد. فما الذي تقدمه لنا مذابح الخمير الحمر عن نظام العدالة الجنائية في القرن الواحد والعشرين؟ وكيف يمكن لعشرات الالاف من الضحايا ان يحصلوا على حصتهم من العدالة «المتأخرة»؟ واخيرا كيف نفهم قتل ملايين الاشخاص باسم «عقيدة»، ايا كانت هذه العقيدة؟ كان أول عمل للخمير الحمر بعد الاستيلاء على السلطة عام 1975، هو افراغ المدن من سكانها، في محاولة لتحويل ذلك البلد الذي يقع في منطقة جنوب شرق آسيا الي نموذج للدولة الشيوعية الزراعية. كما تم إعدام أعضاء الطبقة الحاكمة السابقة، وحظر الدين ورأس المال والأسواق والأعلام، وارغم الشعب بأسره على العمل في مزارع جماعية. وخلال الاشهر الاولي من حكم الخمير الحمر سقط عشرات الالاف بسبب الجوع والتعب والارهاق من العمل فى المزارع الجماعية، غير ان النظام الذى كان يحمل شعارات الاشتراكية، لم يعبأ كثيرا بالتكلفة الانسانية، بقدر ما اهتم بإحياء الشعارات واستخدامها في معارك نفوذ مع الدول المجاورة. وبعد نحو اربعة اعوام، وبعد أن مات ما بين مليون الى مليونين من سكان كمبوديا، البالغ عددهم سبعة ملايين نسمة، أُسقط نظام الخمير الحمر وأطيح ببول بوت عام 1979، على يد حلفائه الشيوعيين السابقين فى فيتنام الشمالية. ونصبت هانوي عاصمة الشطر الشمالي من فيتنام نظاماً شيوعياً جديدا مواليا لها. ولاحقا مات بول بوت في ظروف غامضة في الغابة عام 1998 ولكن الكثير من القادة السابقين لـ«الخمير روج»، ما زالوا يعيشون حياة تقاعد هادئة. فعندما رحب نيون تشيا، أكبر مساعدي بول بوت، بالضيوف في بيته الخشبي الواقع في شمال غرب كمبوديا في يونيو (حزيران) من العام الماضي، تحدث ليس كمجرم حرب وانما كمسؤول سابق عن الظروف التى قادت الى المجازر من دون ان يبدي مسؤولية شخصية عما آل اليه حكم النظام الذى كان يمثله. وألقى تشيا باللوم على اولئك الذين عملوا تحت اشرافه والذين تسببوا بالمجاعة المهلكة، لانهم «بالغوا في تنفيذ التوجيهات». وقد تبدأ محكمة جرائم الابادة الجماعية التابعة للأمم المتحدة في وقت قريب في بنوم بنه لمحاكمة ما يصل الى 12 من زعماء الخمير الحمر السابقين، وتشيا أحد الأشخاص الذين قد يحكم عليهم بالاعدام، وفي بيته المتواضع، قال ضاحكا «لنقل أن هذه المحكمة انشئت، فهل أنا خائف؟ لست كذلك في الواقع. أنا مستعد لتقديم شهادتي أمام المحكمة».

وبالرغم من كل هذه العقبات امام محاكمة مجرمي الحرب فى كمبوديا، يأمل كثير من الكمبوديين في أن تحقق محكمة جرائم الابادة الجماعية، التي يفترض ان تبدأ العام الحالي، العدالة لضحايا النظام، وتكشف الجرائم التي ارتكبها بحقهم. غير ان كثيرين يعتقدون ان ترتيبات المحاكمة بين الأمم المتحدة وكمبوديا يضعفها الاختلاط بين اجراءات المحكمة الكمبودية والقواعد الدولية، وهو ما يمكن أن يربك الاجراءات القانونية ولا يحقق العدالة. وقد تعهد المجتمع الدولي بتوفير 40 مليون دولار لمحاكمات تستمر لثلاثة أعوام، ولكن المحكمة ما تزال تعاني من عجز في ميزانيتها يبلغ 12 مليون دولار.

وهناك قلق من أن ثمن العدالة قد يبرهن على أنه متدن جدا. وقال ستيفن هيدر، المحاضر في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، إن هناك فكرة زائفة حول أن القضية ضد كبار زعماء الخمير الحمر يمكن حسمها بسهولة بسبب فداحة الجرائم، ولكونها اول محاكمة من نوعها تنظر جرائم ارتكبتها جماعة ماركسية لينينية ضد الانسانية، موضحا انه بسبب هذين السببين يمكن ان تكون أقل صراحة واستقامة من المحاكمات الدولية الناجحة السابقة للنازية والتطرف اليميني والقومي على غرار محاكم رواندا او البوسنة والهرسك.

* المدير السابق للمكتب الصحافي الألماني في كمبوديا، وهو الآن صحافي مستقل مقيم في لندن