الهروب إلى.. الإسلاميين المعتدلين

البراغماتية والقواسم المشتركة ربما تفتح طريق الحوار الغربي مع الاسلاميين

TT

انضمت دول الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة في إعلان استعدادها للانفتاح والحوار مع تيارات إسلامية وصفتها بالاعتدال والنأي عن العنف، وذلك بغية إشراكها في عملية التحول والإصلاح الديمقراطي التي تناشد الحكومات العربية وتضغط عليها للإسراع بها. وقد تزامنت هذه الجهود التى ظهرت علانية خلال مؤتمر للاتحاد الاوروبي فى لوكسمبورغ منتصف الاسبوع، مع العديد من المبادرات التي تتالت في الآونة الأخيرة ومن أبرزها المنتدى الأميركي ـ الإسلامي الذي عقد بالدوحة، واللقاءات التي جمعت السفير الأميركي بالقاهرة مع بعض تيارات الأخوان المسلمين برعاية «مركز ابن خلدون»، الذي يديره استاذ علم الاجتماع فى الجامعة الاميركية بالقاهرة سعد الدين إبراهيم، إضافة إلى العديد من المبادرات السياسية والإعلامية البادية للعيان.

وكانت أحداث 11 سبتمبر (ايلول) 2001 قد ولدت حوارا موسعا في الدوائر الاستراتيجية والسياسية الاميركية والأوروبية حول نمط التعاطي مع التيارات الراديكالية الإسلامية، أي تلك التى تستخدم العنف كطريقة لادارة الصراع السياسي. وطرح السؤال التالي: هل يتعين الاكتفاء بمحاربة الجماعات الاصولية العنيفة أمنيا في اطار سياسة مواجهة الإرهاب بذيوله الثقافية والدينية؟ أم يتعين إشراكها في الحوار واللعبة السياسية لتشجيع خط معتدل داخلها اساسه الواقعية والبراغماتية؟ وقد دافع عن الخط الأول الداعي إلى محاربة الجماعات الأصولية العنيفة، سياسيون أميركيون بارزون مثل جيمس وولسي المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية الذي ذهب في عدة مقالات ودراسات منشورة إلى أن الحرب على الإرهاب لن تنجح إلا إذا انطلقت من أن العدو الحقيقي، لمصالح الولايات المتحدة والغرب هو التطرف الديني بنسختيه الشيعية (الخمينية وامتداداتها مثل حزب الله اللبناني) والسنية (القاعدة وذيولها في مصر والسعودية والجزائر ودول اخرى). وشكك وولسي في وجود تيارات إسلامية معتدلة، معتبرا أن مختلف ألوان الطيف الإسلامي تصدر عن المنطلقات الفكرية نفسها والبيئة الثقافية عينها. وقد وثق وولسي لهذه الأفكار في الاستراتيجية الكبرى للشرق الأوسط الصادرة أخيرا عن معهد «آسبان». وإلى هذا الرأي ذهب المفكر والسياسي الأميركي دانيال بايبس (المقرب من الرئيس الاميركي جورج بوش وأركان إدارته)، الذي اعتبر في عدة مقالات كتبها في صحيفة «نيويورك سان» أن الإرهاب يتماهي نظريا وعمليا مع اطروحات الإسلام السياسي، «بما يمثله من منطلقات إقصائية ونزعة عنف راديكالية ضد الآخر»، مطالبا الولايات المتحدة بتشجيع الإصلاح العلماني في العالم الإسلامي والتحالف مع النخب العلمانية فيه لربح «حرب الأفكار» ضد التيارات الأصولية. بيد أن خطا مختلفا ظهر مبكرا في حقل الدراسات السياسية والاستراتيجية الأميركية، راهن على القدرة على التعامل مع اتجاهات إسلامية «معتدلة»، تنبذ العنف وترضى باللعبة الديمقراطية، في حين ذهب اتجاه قريب من هذا الخط إلى أن الرهان المطلوب هو الحوار مع «بعض» الأصوات الإسلامية المعتدلة لتشجيع ودفع مطلب الإصلاح الفكري فى الاسلام. فغراهام فولر نائب رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية ذهب في مقال منشور بمجلة «فورين آفيرز» في مارس (اذار) 2002 إلى أن الولايات المتحدة، إذا أرادت التعامل بواقعية وجدية مع القوى السياسية في العالم العربي، لا بد لها من الحوار والتعامل مع حركات الإسلام السياسي القوية التأثير والحضور في هذا الجزء من العالم، معتبرا أن هذه الحركات شديدة التنوع، منها المعتدل والراديكالي، السياسي وغير السياسي، العنيف والمسالم، التقليدي والحديث، الديمقراطي والاستبدادي. وفى نفس هذا الاتجاه، ذهبت مؤسسة «راند» القريبة من المحافظين الجدد التي قدمت 2004 دراسة استراتيجية مطولة بعنوان «الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والمصادر والاستراتيجيات» طرحت فيها مشروع الشراكة الأميركية ـ الإسلامية لتحديث الإسلام وإصلاحه. وتتمحور دراسة «راند» حول ثلاثة محاور هي: الحركات المتنافسة داخل الإسلام، والبحث عن المقاربة الكفيلة بتشجيع الخيار الإسلامي المعتدل، والتوصيات السياسية للحكومات الغربية في هذا الشأن. وتصنف الوثيقة المسلمين إلى أربع مجموعات تختلف في نظرتها للدين. وهذه المجموعات الاربع هي:

ـ الأصوليون المنقسمون إلى اتجاهين: الراديكاليون الذين يمارسون الإرهاب والعنف (مثل حركة طالبان)، والسلفيون المتشددون والمتمسكون بحرفية النص.

ـ التقليديون الذين ينقسمون إلى اتجاهين هما: المحافظون المتمسكون بالتقاليد الأرثوذكسية (مثل الزعيم الشيعي البارز آية الله على السيستاني) والإصلاحيون الذين يتبنون نفس الفهم للإسلام، ولكنهم يبدون مرونة في التفاصيل والأمور الإجرائية. ـ التحديثيون الذين يقبلون الحداثة ويعتبرونها مطابقة للدين. ـ العلمانيون الذي يتوزعون لاتجاهين هما: اتجاه مهيمن يقبل الدين في حدود الدائرة الفردية مع رفض تدخله في الشأن العام (مثل أتباع مؤسس الجمهورية التركية الحديثة كمال أتاتورك) واتجاه راديكالي يرفض الدين ويحاربه (مثل الشيوعيين). وخلصت الدراسة إلى أن الطرف المرشح أكثر للتقارب والتحاور مع الغرب هو التيار التحديثي المهيأ لقبول القيم الديمقراطية الحديثة، في مقابل انغلاق الأصوليين والتقليديين والعلمانيين اعداء الغرب. وتقترح المؤسسة استراتيجية «ثلاثية» تقوم على إدانة الأصوليين أخلاقيا، وإبراز عيوب التقليديين، ودعم التحديثيين مع مساندة العلمانيين تكتيكيا ضد الأصوليين، ونشر وتوطيد قيم الديمقراطية الغربية مع الرهان على الأجيال المقبلة. وتعتبر الوثيقة أن الشرط الأول لهذه الاستراتيجية هو الشراكة مع المسلمين في إصلاح إسلامي شامل، لبناء إسلام مدني ديمقراطي يستوعب قيم الحداثة. وقد رعى معهد السلام الأميركي (وهو مؤسسة فيدرالية مستقلة أنشأها الكونغرس، يعين رئيس الولايات المتحدة مجلس إدارتها ويصادق عليه مجلس الشيوخ) مبادرة فكرية بعنوان «إعادة تفسير مبادئ الإسلام للقرن الحادي والعشرين» شارك فيها خبراء في الفقه الإسلامي والتفسير من المسلمين الأميركيين، أفضت إلى إصدار تقرير خاص في أغسطس (آب) 2004 اعتبر في خلاصته «أن امام علماء المسلمين وقادتهم في الولايات المتحدة والمجتمعات الغربية عموما فرصا سانحة لقيادة عملية إحياء الاجتهاد، ويتحملون مسؤولية خاصة، لأنهم يتمتعون بحرية الفكر الإبداعي مع التزامهم بالنصوص، وتفسيراتهم الجديدة يمكن أن تستحث فكرا جديدا لدى أكثر المؤسسات الدينية تقليدية في البلاد الإسلامية». ومن الواضح من خلال هذه الوثائق التي توقفنا عندها، أن القرار الاستراتيجي الأميركي تؤطره في مسألة الحوار مع من يصفهم بالإسلاميين «المعتدلين» عدة اعتبارات أساسية من بينها: ـ المسلك البراغماتي الواقعي، أي الانطلاق من كون التيار الإسلامي يمثل أحد أهم مكونات الحقل السياسي العربي، ولذا لا بد من التعامل معه، خصوصا مع تزايد احتمال استفادته من التحول الديمقراطي أي وصوله للسلطة عن طريق الانتخابات.

ـ القواسم المشتركة بين الاسلاميين والولايات المتحدة، فلئن كانت أحداث 11 سبتمبر (ايلول) 2001 والأحداث الإرهابية التي سبقتها وتلتها قد ضاعفت خشية ونقمة الولايات المتحدة من التيار الاسلامي العنيف، إلا أن الرؤية الاستراتيجية الأميركية التقليدية، اعتبرت دوما الحركات الإسلامية «أقرب إليها» من حيث الرؤية والقيم من الحركات التحديثية العلمانية التي غالبا ما تتبنى المفاهيم والأفكار اليسارية. ولا يخفى على أحد أن الإدارات الأميركية المتعاقبة قد حرصت دوما خلال الحرب الباردة على الاستفادة من حالة العداء القائمة بين هذه الحركات والأنظمة القومية الاشتراكية الحليفة للاتحاد السوفياتي (مصر وسورية على سبيل المثال)، كما شجعت بقوة الأصولية الاسلامية الجهادية في أفغانستان من أجل محاربة الاتحاد السوفيتي. ولا يختلف كثيرا خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش الأصولي المحافظ عن خطاب الأصولية الإسلامية التقليدية، ولو تغيرت الإحالات وتباينت المرجعيات. ـ أيضا تطمح الإدارة الاميركية في أن يفضي الحوار المباشر إلى حمل التيارات الإسلامية على مراجعة العديد من منطلقاتها ومواقعها العقائدية والفكرية، أي التحول إلى حركات يمينية محافظة على غرار اليمين المسيحي في أوروبا وأميركا، بحيث تقبل آليات التناوب الديمقراطي وتنبذ العنف. ولا شك أن النموذج الأبرز لهذا التيار المنشود هو حزب «العدالة والتنمية» في تركيا، الذي وطد التحالف التقليدي بين الولايات المتحدة وتركيا وحافظ على العلاقات التركية ـ الإسرائيلية. وفي العراق يجري حاليا اختبار التجربة ذاتها من خلال الرهان على رئيس الحكومة المعين إبراهيم الجعفري والتيار الذي يمثله داخل الطائفة الشيعية. بيد أن دمج تيارات الإسلام السياسي من المنظور الأميركي يصطدم بعائقين عصيين هما:

أولهما، فكري نظري ويتعلق بمدى قدرة هذه التيارات على استيعاب الديمقراطية لا من حيث آلياتها الإجرائية التنظيمية، وإنما من حيث قاعدتها المرجعية التي هي سيادة الشعب وحاكميته.

وثانيهما، استراتيجي سياسي، ويتعلق بمدى القدرة على التوصل إلى قاعدة تنسيق وحراك مشتركة بين الولايات المتحدة وهذه التيارات، بالنظر إلى الأهداف والأجندة الأميركية في المنطقة.