رؤوف دنكطاش في قفص العصافير

عجوز جزيرة أفروديت يصر على عناده ولا يندم

TT

نجح في منع توحيد قبرص وعجز عن إقناع العالم بقبول عناده، حتى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان حذر العجوز رؤوف دنكطاش من العناد، ففي السياسة تجوز المساومة، لكن العجوز دنكطاش رئيس جمهورية شمال قبرص التركية، الذي سيترك منصبه هذا الأسبوع بعد 22 عاما في السلطة، اجتاز خريف العمر ولم يعد من الممكن أن يقدم تنازلات.

علق دنكطاش، بعد أن تجاوز خريف العمر وتعتعته السنوات ما بين الضغوط الداخلية من أجل توحيد الجزيرة وتطلعات تركيا للدخول إلى أوروبا، والذي يحزنه أن القيادة التركية في أنقرة، التي راهن كثيرا على أنها الضمانة لتطلعاته، تريد أيضا وحدة قبرص، ويتساءل: كيف أصبحت قبرص الموحدة هي بوابة تركيا إلى أوروبا؟ يوم الأحد المقبل، سيغيب دنكطاش «رسميا» عن الساحة السياسية لقبرص التركية، لكن هل يصاب الثعلب بالتعب حتى لو وهن؟ منذ 1983، وهو رئيس لتلك البقعة من أرض الزهور والخضار والبيوت المهجورة التي تحرس شواطئ الجزيرة، جزيرة أفروديت، وتقف في وجه بيوت أخرى، سدا يؤكد عزلة العالم.

يقول دنكطاش، إن القبارصة الأتراك، وصموه باللامساوم، فأدار ظهره لهم. هو صار مستقبله وراءه وهم مصرون على التمسك بمستقبلهم الآتي. لم يتردد وهو يهنئ خليفته في الرئاسة محمد علي طلعت، من القول صراحة، إن ضميره مرتاح، فهو لم يحد عن مبادئه التي اعتبرها الآخرون عنادا. لسنوات طويلة ظل مستغربا كيف أنهم لا يثقون بحكمته.

قال لطلعت، الرئيس الجديد المتلهف لفتح أبواب أوروبا عن طريق توحيد قبرص: اياك والتخلي عن استقلال قبرص التركية (عن أحلامي وعن تعبي)، ولأن الحكيم لا يتردد في إحراج الآخرين تطلع دنكطاش حوله وقال: «لقد راقبت طلعت طويلا وبانتباه شديد، انه بارد مثل أفعى».

ويستغرب دنكطاش، كيف وحتى فترة أخيرة، كان وجوده على رأس الدولة المعزولة يمنح الحماية لشعبها والثقة بأن لا عودة إلى القتال الداخلي، فما بال هذا الشعب يعتبره الآن عبئا وعقبة في وجه الانطلاق والانفتاح، هل مل الدفء؟! كان الشعب معجبا بعناده ولامبالاته بالانتقادات الدولية، كانوا يحبون شكله المستدير الضخم الذي يوحي بأنه والد الجميع. لكن المشكلة مع الذين ولدوا بعد عام 1974، كانوا يتفرجون عليه وكأنه خارج الزمن، زمنهم، انهم لم يفهموا أن الفضل يعود إليه في تمتعهم بهذه الحرية ولو محدودة، يكفيهم انه أنهى المواجهات الداخلية.

تاريخ طويل يحمله دنكطاش معه إلى مدينة «غيرن»، حيث ينوي أن يقضي ما تبقى من حياته. تاريخ فيه الكثير من المفارقات والحياة العامة التي صارت جزءا من تاريخ قبرص. سبعة وخمسون عاما من حياته دارت حول القبارصة الأتراك واستقلالهم وتحديد خطواتهم، تغير العالم ولم يتغير هو، وتلك كانت المشكلة.

ومن المفارقات اللافتة في حياته، انه خلال الخمسينات كان هو محامي الإدعاء في محاكمات القبارصة اليونانيين الذين حملوا السلاح ضد الاستعمار البريطاني، وانضموا إلى منظمة ايوكا، بهدف توحيد جزيرة قبرص، واجهه في المحكمة كمحامي دفاع غلافكوس كليريدس الذي أصبح لاحقا رئيسا لجمهورية قبرص. عرف الرجلان بعضهما منذ الصغر، ونقلا لاحقا مواجهاتهما في قاعات المحاكم إلى طاولات المفاوضات للبحث في إعادة توحيد الجزيرة.. وفشلت طبعا. لا ينسى دنكطاش أن بعض الذين حكم عليهم من مقاتلي ايوكا أعدموا شنقا. يقول «في البدء اعتقدنا أن تلك مجرد عمليات إجرامية، ثم اكتشفنا لاحقا أن اليونان وراء الحركة». في مكتبه يحتفظ دنكطاش بصحيفة قبرصية من عام 1956، تروي محاولة فاشلة قامت بها منظمة ايوكا لاغتيال الحاكم البريطاني جون هاردنغ. القنبلة وضعت تحت سرير الحاكم، لكنها لم تنفجر بعد مرور خمسين سنة، يتذكر دنكطاش أنه لم يفضل البريطانيين على القبارصة اليونانيين، فالقصة ليست كذلك، هو كان يقوم بعمله كمحام بارع، والمحامي البارع يدافع عن قضيته حتى بإصدار حكم بالإعدام على أي كان، ولو لمصلحة الحاكم البريطاني.

ويحكي عن بريطانيي تلك الأيام، أن العلاقة الإدارية معهم كانت جيدة، لكن لم تربطه بهم علاقات اجتماعية، كانت لديهم نواديهم وملاعب الغولف الخاصة بهم، ولم يدع أحدهم مرة المحامي البارع إلى بيته، لكنهم قبل انسحابهم من الجزيرة 1960، وضعوا لها دستورا معقدا لتأمين المشاركة في الحكم بين أتراكها ويونانييها، وقبل أن يغادر الحاكم البريطاني آنذاك هيوفوت، قال إن القبارصة الأتراك سيواجهون مصاعب جمة لاحقا، وجاء الأسقف مكاريوس الذي يحمله دنكطاش تضييع فرصة توحيد قبرص مع اليونان، بعد أن عصرته التجارب. قال دنكطاش في لحظة هدوء: كان يمكن للأسقف أن يحقق أهدافه في حركة اينوسيس لتوحيد قبرص مع اليونان بعد استقلال الجزيرة، لو أنه كان كريما في تعامله مع الأقلية القبرصية التركية في الجزيرة، فلو عزز مواقع أبنائها بدل محاولاته استثناءهم وإبعادهم، ودعا إلى استفتاء حول اينوسيس لحقق الفوز بسهولة.

كبرت هذه القصة في قلب دنكطاش ووصلت ما يشبه التحدي الحاقد، وكأن عبارته تلك عن مكاريوس سقطت سهوا منه وأبقاها بين مزدوجين، فذلك لم يحصل وبهذا برأ ذمته، لكن حقيقة مشاعره لم تتغير. وفي لقائه مع محمد علي طلعت لتهنئته ذكره بأنه مصر على معارضة الوحدة مع قبرص اليونانية «لأن القبارصة اليونانيين لن يفهموا أبدا أنه لا يمكنهم السير فوقنا وببساطة».

العجوز الخارج «رسميا» عن المسرح السياسي، سيجلس يقلب صفحات حياته، وسيتوقف عند اسم معين: الدكتور فاضل كوتشوك، الذي خض دنكطاش وكان الأهم، ثم تجاوزه المحامي الطموح.. كم كانت تلك المرحلة غنية، كان ذلك عام 1948، عندما التقى الدكتور كوتشوك وصار عضوا في المجلس الاستشاري للحكم الذاتي لقبرص، ثم في مكتب المدعي العام. وعام 1958، أحب التعبير عن آرائه في مقالات صحافية، فكانت صحيفة «هلكين سيسي»، التي كان ينشرها الدكتور المحترم، ولكن عندما تحولت حركة اينوسيس من حركة سياسية إلى حركة إرهابية، وبدأت عمليات ضد الجالية التركية القبرصية، نظم دنكطاش بدوره حركة المقاومة التركية المسلحة. وإثر الانقلاب اليوناني في قبرص عام 1974، وفرار الأسقف مكاريوس، دخلت القوات التركية الجزء التركي من الجزيرة، ودخل معها دنكطاش ليؤسس حزب الوحدة الوطنية، والوحدة التي قصدها كانت الوحدة مع تركيا وليس وحدة الجزيرة. كان يحق له أن يتجرأ في مطالبه، لكن لتركيا حساباتها البعيدة، لم تقبل بالوحدة، بل ملأت قبرص التركية بأتراك مدنيين، فضاقت تلك البقعة على أبنائها وصاروا يهاجرون، وساءت سمعة قبرص التركية، فالمقاطعة العالمية لها دفعت بالكثيرين إلى التعاطي بالممنوعات من تهريب وتزوير البضائع واللجوء إليها هربا من المحاكم الدولية.

عندما كان طفلا يلعب بالقرب من جدته، كان طموحه أن يصبح بيطريا، كبر وصار يفكر أن يصبح طيارا، لكنه اختار السير على خطى والده في عالم القوانين، ثم قرر ترك بصمته الخاصة فتحول إلى السياسة، في كل هذه المراحل استطاع إيجاد الوقت لكتابة 46 كتابا. لكن الأهم انه عشق هواية التصوير الفوتوغرافي، وإذا كان العالم رفض المجيء إلى قبرص دنكطاش، فإن الصور التي التقطها لقبرصه تحولت إلى معارض جالت قاعات العالم. وكثيرا ما وجد زواره ابتساماتهم أو عبوسهم، وقد صار ضمن إطارات لصور التقطها لهم دنكطاش، حتى الجالسون على طاولة المفاوضات التي رعتها الأمم المتحدة حول مستقبل الجزيرة، هناك لحظات متوقفة من حياتهم التقطتها لهم عدسة الرجل المستدير الضخم. هو نفسه الآن، سيحمل العشرات من الأقفاص التي تضم عصافيره التي تزقزق داخل مكتبه وفوق طاولته وداخل كل غرف المنزل، زقزقتها، كما يقول، تساعده على الراحة. لكن، الرجل العجوز الذي أراد أن يربط تاريخ قبرص ومستقبلها بهواياته، يكشف في بحثه عن راحته، بأنه يحب الأقفاص، لكن الأقفاص ليست للبشر وهي أيضا ليست للعصافير. لكن العجوز بحاجة إلى الراحة وإلى إتقان بعض الزقزقة.