30 عاما على انتهاء الحرب الفيتنامية .. ما الذي تغير؟

«كل الحروب لها شعبية خلال الثلاثين يوما الأولى من بدايتها» (المؤرخ آرثر شيلزنجر)

TT

في 30 أبريل (نيسان) 1975 دخلت قوات فيتنام الشمالية، الموالية للاتحاد السوفياتي، إلى مدينة سايغون عاصمة فيتنام الجنوبية، الموالية للولايات المتحدة الاميركية. هذا هو اليوم الذي يعتبره بعض السياسيين والمؤرخين التاريخ الفعلي لانتهاء حرب فيتنام التي اختلف الجميع في تحديد بدايتها بسبب تورط أكثر من طرف وأكثر من قوة عالمية فيها، اضافة الى عدم إعلان هذا الطرف او ذاك شن الحرب رسميا. وبعد مضي ثلاثين عاما على نهاية الحرب فإنها مازالت ماثلة في ذاكرة الفيتناميين والأميركيين. وباتت تتلخص في الذاكرة الأميركية بـ«عقدة فيتنام»، التي هي النقطة الاكثر سوادا في التاريخ العسكري الاميركي المعاصر. فما هي ملابسات الحرب / العقدة ؟ وهل شكلت الحروب الاميركية الاخيرة في افغانستان والعراق طريقا للخلاص من العقدة ؟ عانى الفيتناميون اجمالا من الغزو الخارجي خلال فترات طويلة من تاريخهم وكانت القوة الخارجية المهيمنة عليهم في الغالب هي الصين. وفي 1860 بدأت فرنسا تمد هيمنتها على المنطقة وأسست مستعمرات لها في فيتنام، ولكن اليابان سيطرت على كثير من المستعمرات الفرنسية أثناء الحرب العالمية الثانية وأقامت نظاما مواليا لها في فيتنام سرعان ما سقط بسقوط اليابان عام 1945. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية حاولت فرنسا استعادة مستعمراتها في فيتنام وخاضت صراعا مريرا مع الفيتناميين حتى 1954 ولكنها هزمت في الثامن من مايو (ايار) 1954 من قبل الشيوعيين الفيتناميين.

وفي يوليو (تموز) 1954 تم التوقيع على «اتفاق جنيف» الذي ينهي الحرب بين فرنسا وفيتنام بحضور الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة قطبي العالم الجديدين. وكان من نتائج الاتفاق تقسيم فيتنام إلى شطرين: شمالي وجنوبي. وفور رحيل فرنسا من فيتنام بدأ الاتحاد السوفياتي مد نفوذه الى فيتنام الشمالية، فيما بدأت الولايات المتحدة تساعد الشطر الجنوبي من فيتنام وعاصمته سايغون عسكريا من أجل ضمها الى الكتلة الغربية. وشرع المستشارون العسكريون الأميركيون في التوافد على فيتنام الجنوبية بدءا من 1955، وهو العام الذي أجريت فيه أول انتخابات ديمقراطية في فيتنام وفاز بالرئاسة نغو دينه ديم، الذي قرر الامتناع عن إجراء استفتاء من شأنه أن يؤدي إلى اتحاد الشطرين الفيتناميين. ظلت الولايات المتحدة تساند حكومة الرئيس ديم، في حين كانت حكومة فيتنام الشمالية الشيوعية وعاصمتها هانوي، مصممة على توحيد شطري البلاد. ومع التنافس الشديد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، وقع الرئيس الأميركي جون كنيدي 1961 معاهدة صداقة مع فيتنام الجنوبية. وفي السنة التالية بلغ عدد الجنود الأميركيين في فيتنام الجنوبية 11 ألف جندي، كما أسست قيادة أميركية في سايغون في العام التالي مباشرة. ولكن الاحداث تطورت بطريقة درامية فتحت الطريق امام نشوب الحرب الفيتنامية، ففي 1963 تمت الإطاحة بالرئيس الجنوبي دينه ديم وجرى إعدامه، كما اغتيل الرئيس كنيدي وتولى الرئاسه من بعده نائبه ليندون جونسون، وفي العام التالي بدأت فيتنام الشمالية بدعم من الاتحاد السوفياتي اجتياح الجنوب في اطار محاولات توحيد شطري فيتنام. ونشبت مواجهات عسكرية دموية بين القوات الموالية للشيوعيين والمدعومة من حكومة فيتنام الشمالية وبين القوات الاميركية في فيتنام الجنوبية. وخوفا من أن يسيطر الشيوعيون على فيتنام الجنوبية، الذي تزامن مع تمدد واتساع النفوذ الشيوعي في شرق اوروبا، اقدم جونسون على قصف المواقع الفيتنامية الشمالية بعد أن هوجمت بعض القطع البحرية الأميركية في خليج تونكين. وظل الوجود العسكري الأميركي يتصاعد في فيتنام ليبلغ في نهاية 1965 ما يناهز 200 ألف جندي، ثم وصل في صيف 1968 إلى 550 ألفا. في 1969 وصل الرئيس الجمهوري ريتشاررد نيكسون إلى رئاسة الولايات المتحدة وفي نفس العام توفي الزعيم الفيتنامي الشمالي هوشي منه ولكن ذلك لم يوقف المواجهات المستعرة التي كانت تتأجج بسبب ضخ واشنطن وموسكو جنودا وعتادا واسلحة كل يوم. ومع ما تكبدته أميركا من خسائر بشرية ومادية، ظهرت في الشارع الأميركي دعوة إلى إنهاء الحرب الفيتنامية. وبينما كانت نيران الحرب مشتعلة بدأت المفاوضات السرية بين الطرفين، حيث تولى مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي يومها هنري كيسنجر قيادة دفة التفاوض مع فيتنام الشمالية لإنهاء الحرب. وأعلن في 23 يناير (كانون الثاني) 1973 عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، دخل حيز التنفيذ 28 من نفس الشهر. ولكن الفيتناميين الشماليين انتهزو بعد ذلك فرصة انشغال واشنطن بفضيحة «ووترغيت»، فشنوا هجوما كاسحا على الجنوب إلى أن وصلوا إلى سايغون 30 إبريل (نيسان) 1975 . وإجمالا استمرت حرب فيتنام أكثر من عشرين عاما، وبسبب تلك الحرب تم إرسال ما يقارب ثلاثة ملايين أميركي إلى أرض المعركة، وقدر عدد قتلى الحرب بمليونين ونصف المليون من الجانبين وملايين المصابين والمعاقين واللاجئين. ولأكثر من عقدين من الزمان كانت فيتنام «عقدة» من الناحية العسكرية والسياسية، جعلت القيادة الأميركية تقف مترددة حيال امكانيات التدخل العسكري في اي مكان من العالم. وعندما اقترب الجيش الأميركي من جيش صدام خلال حرب الخليج الثانية 1990 و1991 لم يغامر جورج بوش الاب بخوض غمار مواجهة عسكرية برية «مباشرة» خوفا من الحرس الجمهوري والسلاح الكيماوي العراقي المفترض. مع ان الخبراء العسكريين في مختلف أنحاء العالم يجمعون على أن خطة تحرير الكويت كانت محسوبة بدقة من ناحية التخلص جزئيا من عقدة فيتنام. لان الخطة كانت قائمة على القصف الجوي المكثف، والابتعاد قدر الإمكان عن المواجهة البرية المباشرة، الا ان بوش الاب لم يجرؤ على الدخول في مواجهة برية مباشرة. لكن العقدة حلحت نسبيا بعد عقد من الزمن عندما قرر جورج بوش الابن، مدفوعا بافكاره حول دور اميركا في اصلاح العالم، اي «يحرر» العراق. دخلت الولايات المتحدة الحرب بعدد أقل من الجنود وبإقدام كبير على المواجهة البرية من دون خوف حتى من الأسلحة البيلوجية والكيماوية المحتملة. ولكن «العقدة» انعشتها مجددا «المتاهات» التي دخلها الاميركيون والعراقيون بعد سقوط بغداد. لدرجة أن صحيفة «جيش التحرير» الصينية نشرت العام الماضي مقالا تحت عنوان «الأميركيون يتذكرون حرب فيتنام مرة أخرى» . ورأى كاتب عمود أميركي أن لحربي فيتنام والعراق نقطة متشابهة هي: شكوك الجماهير الاميركية في مغزى الحرب. كما استذكر دبلوماسي اميركي عمل في جنوب فيتنام أن الرئيس الاميركي الاسبق ليندون جونسون كان يستسلم للاوهام في سعيه لتحقيق الديمقراطية في جنوب فيتنام. ورأى هذا الدبلوماسي ان ما عملته حكومة بوش في العراق شبيه بما عمل جونسون في فيتنام في تلك السنوات.