متى تعتذر الدول عن أخطائها؟

الأرمن يطالبون الأتراك بالاعتذار والصينيون يطالبون اليابانيين والكويتيون يطالبون العراقيين

TT

هل تعتذر الدول عن أخطائها التى ارتكبتها بحق دول وشعوب أخرى حتى لو مرت على هذه الانتهاكات عشرات وربما مئات السنوات؟ وكيف يمكن تحميل نظام سياسي معاصر أخطاء نظام سياسي سابق له؟ بل كيف نعرف معنى الانتهاك والتجاوزات وكيف نحددها؟ هذه الأسئلة وغيرها طرحت خلال الأسبوع الماضي للنقاش المطول على خلفية قضيتين هما ذكرى مذابح الأرمن على يد الأتراك قبيل الحرب العالمية الأولى، والخلاف الياباني ـ الصيني بسبب طريقة كتابة طوكيو لتاريخها الاستعماري وتجاوزاتها الهائلة خلال احتلالها للصين. غير أن القضية تتسع لتشمل انتهاكات النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، وتجاوزات نظام صدام حسين بحق الكويتيين، والأميركيين الأوائل بحق الهنود الحمر، والكثير من الحالات المماثلة.

وتظهر الاحتجاجات الأخيرة المناهضة للصين، طرقا متناقضة حول كيفية نظر البلدين إلى ماضيهما. ومما يثير الجدل تعامل كتب التاريخ اليابانية مع المذابح المرتكبة بحق المدنيين الصينيين خلال احتلال اليابان للصين قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. ومن بين ما فاقم التوترات بين المحتجين الصينيين، زيارة برلمانيين يابانيين إلى نصب ياسوكوني، الذي يمجد كل ضحايا الحرب اليابانيين، بمن فيهم مجرمو الحرب، الذين قادوا حرب اليابان واحتلالها للصين. ويختزل كل من المرقد والكتب المدرسية المذابح الشنيعة حقا إلى مجرد «حادث»، وبينها مذبحة نانجنغ عام 1937، حيث قتل 300 ألف شخص، بينهم الكثير من النساء والفتيات الصينيات، اللواتي جرى اغتصابهن من قبل الجنود اليابانيين.

وللاحتجاجات الحالية المناهضة لليابان مبررات معاصرة، منها القوة المتعاظمة للصين، والنزاعات ذات العلاقة بالنفط حول الجزر التي تدعي اليابان والصين وكوريا الجنوبية ملكيتها، واحتمال حصول اليابان على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، وشروعها في تطوير جيشها الخاص، كل هذه المبررات تشير إلى المنافسة المتزايدة بين القوتين الإقليميتين العظميين. وقد تمثل الاحتجاجات، التي يشارك فيها الشباب الصينيون إلى حد كبير أيضا، عداء مقموعا تجاه نظامهم الشيوعي، وهو ما حاولت السلطات الصينية أن توجهه ضد كبش الفداء الياباني.

غير أن هذا الحدث طرح قضية مسؤولية الحكومة الحالية عن الجرائم والمذابح التي ارتكبتها حكومة سابقة ومختلفة تماما. وقد أصدرت الحكومة اليابانية اعتذارا 1995، ولكن مع اقتراب الذكرى الستين لانتهاء الحرب العالمية الثانية، فإن لغة الرفض في الكتب المدرسية اليابانية وزيارة نصب ياسوكوني المثير للجدل من جانب رئيس الوزراء الياباني، أثارتا عاصفة من الغضب في الصين، مما حدا برئيس الوزراء، جونشيرو كويزومي، لتكرار اعتذار 1995 في لقاء مع رئيس الوزراء الصيني في مؤتمر عقد بجاكارتا الأسبوع الماضي.

ومن اللافت للانتباه أن نقارن بين قبول اليابان مكرهة للمسؤولية عن جرائم الحرب التي ارتكبتها، مع الاعتذار الألماني الصريح 1951 عن الهولوكوست ضد اليهود والغجر. ومضى كونراد اديناور، أول مستشار ألماني بعد الحرب العالمية الثانية، بالتعهد بتقديم تعويضات لعوائل الضحايا. وأظهرت ألمانيا أيضا حدود المسؤولية، إذ أن فكرة أن جميع الألمان مذنبون جماعيا بشكل ما في ارتكاب الجرائم النازية، تثير استياء الكثير من الألمان المعاصرين، خصوصا من ألمانيا الشرقية السابقة التي لم تواجه، في ظل الحكم الشيوعي، الماضي بالطريقة ذاتها التي حدثت في ألمانيا اديناور (الغربية). وفي الفترة الأخيرة قام النازيون الجدد اليمينيون بجهود للإعلان عن قصف الحلفاء لمدينة دريسدن في ألمانيا الشرقية السابقة ليظهروا أن الألمان كانوا أيضا ضحايا، وأنهم ربما يستحقون الاعتذار.

أما فى حالة تركيا والأرمن، فقد ردت الحكومة التركية على مزاعم من الجاليات الأرمنية في دول الشتات، حول قتل ما يزيد على مليون أرمني في تركيا خلال الحرب العالمية الأولى، والكثير منهم في مسيرات بالاكراه بدون طعام أو ماء من تركيا إلى سورية والعراق، بالقول إن ما يصل إلى 500 ألف تركي قتلوا على أيدي الأرمن. وطالما أن كلا من الأتراك والأرمن كانوا ضحايا، فكيف يمكن أن يقف طرف واحد متهما بارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الآخر. وتتمثل الحجة التركية الثانية في أن الكثير من حالات الموت كانت نتيجة للدعم الأرمني لروسيا في الحرب ضد ألمانيا والامبراطورية العثمانية، التي هي السلف المباشر لتركيا المعاصرة.

وما تزال تركيا، كجزء من شروط دخولها إلى الاتحاد الأوروبي، تحت ضغط لمواجهة الماضي والاعتذار. ومن الناحية الرسمية لن ترحب تركيا بكل ما يقترب من اعتذار أو اعتراف بمذبحة الأرمن جزئيا، لأن مثل هذا التعبير عن الندم ينظر إليه كهجوم على كبرياء تركيا الوطني. كما أنه من المفهوم أن يتوقع الأتراك مطالبات بتعويضات من الأرمن الناجين إذا ما جرى الاعتذار. وتبقى القضية مثيرة للجدل على نحو عميق.

وعندما أشار الروائي التركي الشهير أوهان باموك، إلى أن ما يزيد على مليون أرمني فقدوا حياتهم، أحرقت كتبه، وطالب السياسيون الأتراك بمعاقبته.

غير أنه يمكن العثور على مخرج لتركيا في الطريقة التي تتكيف بها الولايات المتحدة مع المعاملة القاسية للأميركيين الأصليين منذ أمد بعيد. فقد عرض على مجلس الشيوخ الأميركي مشروع قرار في 19 أبريل (نيسان) 2005، يدعو إلى اعتذار رسمي عن الانتهاكات والمذابح التي ارتكبت بحق الهنود الحمر، بدون الإشارة إلى تقديم تعويضات. وفي الوقت الذي ينتظر فيه مشروع الاعتذار إقرار الكونغرس، يتعلم الطلاب الأميركيون في الآونة الأخيرة، نسخة من التاريخ أكثر تعاطفا مع محنة الأميركيين الأصليين، من تلك التي تعلمها جيلي. ويرجع ذلك إلى الثورة الاجتماعية والفكرية التي شهدتها أميركا في الستينات، والتي أدت إلى ظهور التعددية الثقافية وقضت على سيطرة الفكر الانغل ساكسوني البروتستانتي. وفى العالم العربي يمكن طرح السؤال الآتي: هل الحكومة العراقية الجديدة مطالبة بالاعتذار عن السجل التاريخي لنهب واغتصاب وقتل الكويتيين خلال الاحتلال في الفترة ما بين عامي 1990 ـ 1991؟ والواقع أنه في الوقت الذي لا تعتبر فيه الحكومة العراقية الحالية مسؤولة عن حرب صدام، فإن عدم الاعتراف بوقوع مثل تلك الفظائع، لن يساهم في تطوير العلاقات بين الطرفين.

وأذكر أن العالم الإسلامي الفرنسي الجزائري الأصل، محمد أركون، شرح لي، في أوائل الشهر الحالي، أن نفي «الآخر» هو ضمان للعنف المستقبلي. ففي كل الحالات المذكورة أعلاه، الانتهاكات اليابانية في الصين، وجرائم النازيين، والمأساة الأرمنية، والمذابح ضد الهنود الحمر، والانتهاكات ضد الكويتيين، نفى مرتكب الجرائم، إنسانية الضحايا، وبهذا المعني فإن أقل ما يمكن لحكوماتهم القيام به هو الاعتراف والاعتذار بالنيابة عن مرتكبي الجرائم. إن مثل هذه التوبة لا تعني ذنبا جماعيا، بل ان مثل هذا التصرف سيساعد أقارب الضحايا على الصفح. فنفي وقوع مثل هذه الأحداث يماثل القول لأقارب الضحايا بضرورة نسيان الأمر، وهو ما يعني استمرار استبعاد «الآخر» وضمان استمرار العنف في المستقبل.

* محاضر في كلية سانت أنتوني في جامعة أوكسفورد