أردوغان في إسرائيل.. المصالح المشتركة والقضايا «المسكوت عنها»

TT

آخر ما يريد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، أن يسمعه خلال زيارته إلى إسرائيل، التي ستبدأ بعد غد، هو تصريح قبل سنة بالضبط، قال فيه إن ما تفعله قوات الاحتلال الإسرائيلية ضد الفلسطينيين هو «إرهاب دولة». وسبب خشية أردوغان لا تتعلق فقط بالأصول الديبلوماسية المرعية، إنما تتعلق أساسا بالوقت الذي اختاره لزيارته، والذى يبدو محرجا للغاية. ففي مطلع الأسبوع، أحيا الأرمن في كل مكان في العالم، وكذلك في إسرائيل، ذكرى المذابح التي قامت بها القوات التركية ضدهم إبان الحرب العالمية الأولى. وخرجت الصحافة الإسرائيلية، كعادتها، متعاطفة مع الأرمن بشكل كبير ومنتقدة الحكومة الإسرائيلية، التي تعتبر واحدة من الحكومات القليلة التي ما زالت ترفض اتخاذ موقف صريح من تلك المذابح، خوفا من رد فعل الحكومة التركية. فالإسرائيليون يميلون لعقد صفقة غير مكتوبة مع الأتراك، مفادها: لا تقتربوا منا في موضوع القضية الفلسطينية، فنحن لم نقض على 1.5 مليون فلسطيني، مثلما فعلتم أنتم بالأرمن، ونحن لن ندينكم من قضية مذابح الارمن. يعني هذا أن العلاقات التركية ـ الإسرائيلية معقدة جدا، وهى معقدة بشكل خاص في ظل وجود حكومة إسلامية في أنقرة تتنازعها الرغبة في تحقيق مصالحها مع تل أبيب، وهي كثيرة، ورغبتها في الحفاظ على علاقاتها المبدئية مع العالم العربي والإسلامي، الذي تتعثر علاقاته مع إسرائيل بسبب احتلالها لأراضي ثلاث دول عربية. فمها هي مصالح تركيا وإسرائيل المشتركة، والقضايا التي سيبحثها الطرفان، وكيف تطورت هذه العلاقات خلال التسعينات، وخلال حكم حزب «الرفاه» الإسلامي بزعامة نجم الدين أربكان؟

بالرغم من القضايا «المسكوت عنها» خلال زيارة أردوغان إلى إسرائيل، مثل الأرمن والكثير من الانتهاكات ضد الفلسطينيين، إلا أن الزيارة تترقبها الأوساط الإسرائيلية منذ أن انتخب أردوغان رئيسا للوزراء في تركيا، قبل سنة ونصف السنة. ففي حينه، ساد التحسب والقلق في إسرائيل، من أن يحدث أردوغان، الذي ينتمي إلى حزب التنمية والعدالة الإسلامي، انعطافا إلى الوراء في العلاقات مع إسرائيل، وهي العلاقات التي تعتبر تاريخية واستراتيجية. تاريخية، باعتبار أن تركيا سمحت لليهود بالهجرة إلى فلسطين في عهد الدولة العثمانية، في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وسمحت لهم بشراء الأراضي، وهي أول دولة إسلامية في العالم تعترف بإسرائيل في مطلع عام 1949. واستراتيجية، لأنها تقيم معها علاقات تعاون وثيقة في المجال العسكري والاستخباري، وتشكل بالنسبة لها طرف الكماشة الثاني ضد سورية ولبنان وإيران. كما أن هناك تعاونا اقتصاديا ضخما بينهما.

ومن شدة توجس الأوساط الإسرائيلية من السياسات المحتملة للحكومة الإسلامية في تركيا، سعت إسرائيل لدى الجيش التركي للضغط على حكومة أردوغان، إلا أن التطورات اللاحقة خلال العام الماضي، دلت على أن إسرائيل لم تكن بحاجة إلى أي ضغط، فهي نفسها تدرك أهمية مصالحها مع اسرائيل، وتتصرف بناء على ذلك. وما الزيارة الحالية إلا مثلا حيا على ذلك.

وللدلالة على أن المصالح تتجاوز الآيديولوجيا، يحضر أردوغان إلى إسرائيل على رأس وفد كبير من رجال الأعمال والوزراء ونواب البرلمان، فيما القضية الأساسية على الأجندة هي العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية. وخلال مباحثات أردوغان، ستطرح على المائدة عدة قضايا للنقاش، من بينها وساطة تركيا بين إسرائيل وسورية، وبين إسرائيل والفلسطينيين. وكان وزير الخارجية التركي، عبد الله غل، قد تحدث عن ذلك، هو الآخر، لدى زيارته لإسرائيل في يناير (كانون الثاني) الماضي، وبدا أن بلاده ستعيد الحياة إلى المفاوضات بين سورية وإسرائيل، لكن شيئا من هذا لم ولن يحدث، وربما يعيد الطرفان التأكيد على نفس هذه التصريحات. كما ستطرح المسألة الكردية، فتركيا، مثل كل دول الهلال الخصيب، تعاني من عقدة الأكراد، وتخشى من أي نشاط كردي مستقل، خوفا من أن يقود إلى انضمام أكراد تركيا إلى دولة كردية مستقلة. وإسرائيل تحافظ على علاقات وطيدة مع الأكراد، خصوصا الجناح العراقي منهم، وهو أقوى شريحة كردية في المنطقة. وتركيا معنية بتوظيف العلاقات الإسرائيلية ـ الكردية لصالحها وليس ضد مصالحها. ومنذ أواسط التسعينات، تقيم إسرائيل وتركيا علاقات عسكرية واقتصادية متطورة للغاية. إذ يتطور حجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل باستمرار، وقد وصل إلى 1.2 مليار دولار عام 2003، لا تشمل الصناعات العسكرية. وتعتبر تركيا اليوم أول عنوان للسياحة الاسرائيلية، إذ يسافر كل عام 350 ألف إسرائيلي للاستجمام فيها، نصفهم يستخدمون شركة الطيران التركية.

إلى ذلك، عندما شعرت إسرائيل بالفزع من جراء القحط، وبدأت تعاني من نقص حاد في المياه، توجهت إلى تركيا لشراء الماء منها. وفي نفس الفترة، انسحبت إسرائيل من أجزاء واسعة في الضفة الغربية وقطاع غزة، إثر اتفاقيات أوسلو وإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، ولم تعد تدريبات سلاح الجو فيها آمنة، إذ رفض الفلسطينيون أن تستخدم سماؤهم لأية أغراض عسكرية، فطلبت تل أبيب من تركيا السماح لها باستخدام سمائها لهذه التدريبات، وبالمقابل اتفق على إجراء مناورات مشتركة بشكل دائمة بين الجيشين، وتشجيعا لهما، انضمت الولايات المتحدة بقواتها المرابطة في البحر الأبيض المتوسط، إلى تلك المناورات (عرضت واشنطن على كل من الأردن ومصر المشاركة أيضا، فوافق الأردن واشترك مرة واحدة بصفة مراقب ثم انسحب، فيما رفضت مصر ذلك). كما تم التوقيع على عدة اتفاقيات تعاون في المجال الأمني الاستخباري، تحت عنوان «مكافحة الإرهاب»، الذي تعاني منه البلدان.

وقد قدمت إسرائيل لتركيا عروضا مغرية في المجال العسكري، تتمثل في إعادة تحديث طائراتها القديمة المقاتلة من طرازي «فانتوم» و«اف ـ 15»، وتم توقيع صفقة بقيمة 676 مليون دولار، برعاية الولايات المتحدة. كما اتفق على أن تشتري إسرائيل ما يعادل 50 مليون متر مكعب من المياه التركية سنويا ولمدة 20 سنة.

وفي مطلع الألفية الثالثة، تم التوقيع على اتفاقية أخرى تقوم إسرائيل بموجبها بتحديث 170 دبابة تركية بقيمة 700 مليون دولار (التحديث يشمل تركيب مدفع عيار 120 ملمترا، وأجهزة رادار حديثة ومشفرة، وأجهزة إطفاء حديثة، ومعدات للحماية من الأسلحة البيولوجية والكيماوية، وجهاز للتشويش على الصواريخ المضادة للدبابات، وتبديل المحرك بمحرك ألماني حديث قوته ألف حصان، وغيرها). ويشمل الاتفاق إمكانية التوسيع ليتم تحديث 530 دبابة أخرى، إلا أن إسرائيل أبلغت تركيا في هذا الوقت بإلغاء صفقة المياه، باعتبار أن تكاليفها ستكون باهظة، حيث تبلغ تكلفة المتر المكعب الواحد ضعفي تكلفة تحلية المياه في إسرائيل نفسها. وجاء الإعلان الإسرائيلي بهذا الشأن في فترة اندلاع الحرب الأخيرة على العراق، عندما بدأت تتسرب معلومات عن وجود إسرائيلي في شمال العراق بين الأكراد، فغضب الأتراك جدا، وهددوا بوقف صفقات تحديث الأسلحة.

وقد عالج ارييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي، الموضوع بسرعة فأخذ على عاتقه أن يعود إلى صفقة المياه حتى بسعر الخسارة، باعتباره موضوعا «\سياسيا» وليس اقتصاديا فقط، وأرسل رسائل طمأنة إلى أردوغان، وقبله إلى الجيش التركي، حول العراق. وبهذا فتح الطريق أمام إعادة الحرارة إلى العلاقات بين البلدين، وهي حرارة لن تكون مفتقدة خلال هذه الزيارة.