توني بلير.. الحرباء.. سجين «داوننغ ستريت»

TT

في عام 2000 وفي زخم فضيحة بيل كلينتون ـ مونيكا لوينسكي، أفردت صحيفة «الغارديان» في صفحتها الأولى مقالا للأديب غابريل غارثيا ماركيز بعنوان «لهذه الأسباب أدافع عن بيل كلينتون»، وفحوى المقال خيال أدبي ذهب فيه الى أن كلينتون الرجل الشاب سجين في البيت الأبيض الذي تنص لوائحه على البحث عن الرئيس للتأكد من مكانه كل 17 دقيقة. وأضاف أن كلينتون مثقف، وأنه، أي ماركيز لم يحدث وأن ناقشه أحد بمثل عمق النقاش الذي أداره معه كلينتون على مأدبة حول رواية «مائة عام من العزلة». لكن توني بلير، زميل كلينتون في جامعة أكسفورد البريطانية، وعلى كثرة المقاربات التي تجمع بين الشخصيتين، لا يجد من يدافع عنه، لا مع حربه التي خاضها لإسقاط صدام حسين في 19 مارس (اذار) 2003، ولا مع زيادة الرسوم الدراسية للجامعة التي قدمها وفرضها في يناير (كانون الثاني) الماضي، وحتى من بين رموز حزب العمال الذين سبق وأن آزروه ودفعوا به للصفوف الأمامية، وتنداح الانتقادات لبلير هنا في أكثر من اتجاه، فهناك من يقول ان بلير 2003 وما بعدها ليس هو بلير التسعينات، بدليل أن أهم محاور سياسته الخارجية القائم على «سياسة خارجية عمادها الأخلاق» قد انهار بدءا من تزويد نظم ديكتاتورية في أفريقيا بالسلاح ونهاية بحرب العراق وتضليل الرأي العام والبرلمان بشأنها، وقد تداعى الانهيار ليفقد بلير صديقه وزير الخارجية روبين كوك الذي برر استقالته بانهيار ذلك المبدأ الأخلاقي. ولكن بلير أيضا مثقف من الطراز الأول، ويبدو هنا أن المقاربات قد انداحت أصلا بين لندن وواشنطن، وعلى كثرتها، لجهة تأهيل الشباب للقيادة على أعتاب ألفية جديدة، فشهدنا تلك العواصم تقدم ولأول مرة في تاريخها رؤساء من مواليد ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، فجاء بيل كلينتون، وهو من مواليد 1947 وتوني بلير وهو من مواليد 1953، وكلاهما بنفس ليبرالي لا يخلو من جرأة، فقد اقتحم كلينتون البيت الأبيض بشعار «إنه الإقتصاد أيها الغبي»، واقتحم بلير «داوننغ ستريت» بشعار «المستشفيات والمدارس أولا»، ضمن رؤية جديدة كان له فيها فضل الاجتهاد بتعديل ما عرف بالمادة الخامسة من دستور حزب العمال ليصبح حزب العمال الجديد، مستوحيا، أي بلير، سقوط الاتحاد السوفياتي وجدار برلين، وميراث التاتشرية الثقيل، ليمضي بأفق المثاقفة للقضايا نحو ما عرف «بالطريق الثالث»، وهو جهد فكري يحاول أن يلجم بعض قسوة الرأسمالية والمجتمع الرأسمالي، أو قل يؤنسنها لجهة إنفاق على الخدمات والرعاية الاجتماعية لتوسيع قاعدة المستفيدين من بين الطبقات الوسطى والفقيرة. بل انه وعلى نفس الطريق يبلور الآن عقدا جديدا نحو أفق جديد يسد الفجوة القائمة عالميا بين الشمال الغني والجنوب الفقير. ولكن سجل الاداء مع شعار «المستشفيات والمدارس أولا» لم يسعف بلير، فأداء حكومته في القطاعات الخدمية دون المتوسط، بل ان خدمات مترو الأنفاق جعلت بريطانيا تحتل الرقم 16 بين دول الاتحاد الأوروبي، ولكن دفاع حزب العمال الجديد يذهب الى أنهم يعالجون وطوال فترتي حكمهم أخطاء الحقبة التاتشرية، وأنهم سينطلقون بتلك الخدمات فور تصحيح تلك الأخطاء، وهي حجة غير مقنعة جماهيريا. جاء توني بلير الى داوننغ ستريت في 1997 وهو في الثالثة والأربعين كأصغر رئيس في تاريخ بريطانيا منذ أكثر من 140 عاما، وكأول رئيس في تاريخها يعيش مع أسرته وأبنائه الأربعة في «10 داوننغ ستريت»، باعتبار أن كل من سبقوه كانوا أكبر سنا وآباء لأبناء كبار السن، كما انه أول رئيس وزراء في تاريخ بريطانيا يرزق بمولود في مقر رئاسة الوزراء منذ 152 عاما في 20 مايو (أيار) عام 2000، بعد رئيس الوزراء جون رسل الذي رزق بطفله الرابع أيضا عام 1848. جاء بلير لرئاسة الوزراء مصطحبا خبرة رجل القانون كما صديقه كلينتون، ومتفوقا عليه بخبرة النادل في حانة خمر في باريس من أجل تحسين لغته الفرنسية. وهناك من يقول الآن أن مايو سيكون مصدر فأل لأنتوني شارلس لينتون بلير (وهذا هو اسمه بالكامل)، والذي كانت شهقة ميلاده في الحياة، ومن عجب، في 5 يونيو (حزيران) 1953، وهو اليوم الذي واجه فيه العرب نكستهم وهزيمتهم على يد اسرائيل في حرب 1967، مثلما كانت بلاده هي التي اختلقت أصلا دولة اسرائيل بوعد بلفور وزير الخارجية البريطاني انذاك. ومصدر الفأل أن الاول من مايو هو يوم عيد العمال العالمي، وبلير رئيس لحزب اسمه (العمال) ويخوض ولايته الثالثة مع الحزب في الخامس منه، ليحتفل، ربما، بعيد الميلاد الخامس لآخر أبنائه بعد اسبوعين من الانتخابات التي يذهب معظم التقدير الى أنه سيفوز بها، ولكن بمعادلة غريبة لا ترجع الفوز الى كونه الأفضل سياسيا، ولكن لأنه أفضل السيئين. ويبدو الحكم هنا صحيحا، لأن منافسيه في حزب العمال (غوردون براون) أو قيادة حزب المحافظين ليسوا في كارزميته، دعك عن ثقافته.

ولكن بلير يخوض هذه الانتخابات في سياقات تختلف كليا عن الانتخابات السابقة، فهناك توابع زلزال الحرب على العراق، والتي أوشكت أن تعصف بحكومته، وأشهر محطاتها قضية انتحار عالم الأسلحة البريطاني ديفيد كيلي وتقرير اللورد هاتون حول مدى تورط الحكومة في لي ذراع الحقائق فيما يتعلق بمسببات الحرب على العراق، وآخرها التقرير الذي تسرب الاربعاء الماضي حول علمه المسبق من خلال تقرير النائب العام في حكومته اللورد سميث بأن الحرب على العراق ربما سيتبين في وقت لاحق أنها غير شرعية وأنها تنتهك قواعد القانون الدولي. وهناك فقدانه لصديقه اليستر كامبل وزير الإتصالات في داوننغ ستريت والذي تلقبه الصحافة البريطانية بـ«ملك المناورة»، الذى استقال مفضلا التفرغ لتربية أبنائه. والأهم من ذلك كله أنه يخوض هذه الانتخابات ليواجه على مقربة زمنية من نهايتها مسألة البت في قضية الدستور الأوروبي، وما إذا كان سيستفتي البريطانيون عليه، وما إذا كانت الاستفتاءات الأوروبية الأخرى ستؤثر على الرأي العام البريطاني.

ولكن في صحيفة بلير وعلى مستوى أداء الإقتصاد البريطاني ما يعضد موقفه، فتقديرات المراجع المستقلة تعترف للاقتصاد البريطاني بأداء متميز وصل بمتوسط دخل الفرد البريطاني الى 670 ,38 دولار في العام بفارق 4 آلاف دولار عن الفرد الأميركي ومتقدما بألفي دولار عن الفرد الفرنسي وألف دولار في العام عن الألماني، محتفظا أيضا بنسبة نمو 3 ,2 في المائة وبنسبة تضخم 8, 1 في المائة متقدما على أميركا وفرنسا. (عدد سكان بريطانيا 7, 60 مليون نسمة).

وليس معنى ذلك أن انتخابات الخميس القادم في جيب العمال، أو أن بلير سيتمكن من البقاء في داوننغ ستريت حتى مع فوز حزب العمال، فهناك المفاجآت التي يمكن أن تحدث في آخر لحظة، وهناك (الفلوترز) الذين لم يحددوا موقفهم بعد، وهناك مجموعة غوردن براون التي تتربص به، بما يجعل مصيره أقرب الى مصير تاتشر التي كمن لها المحافظون وأسقطوها وهم في الحكم ليخلفها جون ميجور الذي هزمه بلير في 1979 . ولكن عموم المشهد يوحي بقدوم الرجل لولاية ثالثة يعيشها كسجين في داوننغ ستريت وإن بسياقات تختلف في معطياتها الأخلاقية عن صديقه بيل كلينتون، وذلك برغم توابع زلزال حربه على العراق وما ألحقته بشخصيته من صفات لم يكن ليوصف بها قبل تلك الحرب، وبينها التضليل والكذب، وذلك هو الوتر الذي يلعب عليه الآن خصماه، المحافظون والديمقراطيون الليبراليون، مثلما ينسج به خصومه في حزب العمال حبالهم استعدادا للفها حول عنق «الحرباء»، في إشارة منهم الى أن الرجل قد بدل جلده ولم يعد فتى الأربعينات الذي جاءوا به الى الزعامة والحكم، ولكن كل ذلك يأتي في مقابل سيناريو آخر يقول إن الرجل الذي نجا من تبعات وزلازل حرب العراق ربما يكيف نفسه لتحديات جديدة تبعد عنه منظومة التهم التي تلاحقه بصورة ترشحه لأن يجتازها ويحكم وإن كبطة عرجاء، كما يقول أهل الغرب.