من النكد إلى التعب: صحافيون أصبحوا.. سياسيين

بينهم هيكل والسادات والسباعي وإياد مدني والعكاس واليوسفي وموسوليني وتشرشل وهيلموت شميث

TT

لكل زمان مضى آية.. وآية هذا الزمان الصحف (الشاعر أحمد شوقي).

بين الصحافة وسائر المهن خيوط رفيعة واختلافات، وإن تميزت الصحافة بأنها وكما يصفها العاملون فيها «مهنة النكد والبحث عن المتاعب». ولكنها مع ذلك تمتلك فضاءات رحبة من التحرر، وذلك خلافا لسائر المهن الأخرى التي كثيرا ما تكون أشبه بسجن كبير لصاحبها وممتهنها حتى وإن وفرت له من أسباب الرفاه والصيت ما يرضي الغرور. والصحافي من وجهة نظر كثيرين لا يعرف التقاعد، فالأقلام لا تشيخ، والكلمة في شيخوخة الصحافي تأتي معبقة بعطر التجارب. ومن هنا وحين لم يجد الإنجليز مكانا لتصنيف الصحافة ضمن السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهي عماد العملية الديمقراطية، أطلقوا على الصحافة لقب السلطة الرابعة. وللأديب الراحل يوسف السباعي عبارة شهيرة قالها يوم أن عينه الرئيس المصري الراحل انور السادات رئيسا لمجلس إدارة «الأهرام» ولتحريرها وهي «الحمد لله لقد ترقيت من وزير للإعلام الى نقيب للصحافيين ثم ترقيت من نقيب للصحافيين الى رئيس لتحرير الأهرام».

وبالطبع لا يمكن القطع بأن في العودة أو الانتقال الى الصحافة (ترقية)، مثلما لا يستطيع أحد أن يقطع بأن في وداع صاحبة الجلالة أو تطليقها (نعمة)، فذلك هو الصحافي وير ساوانسا الذي فاز بمنصب عمدة العاصمة السريلانكية كولومبو يقول يوم فوزه «ان السياسيين في سري لانكا مثل كوم قاذورات تنبعث منه رائحة كريهة. وأنا مصمم على تنظيف المكان».

ومع ذلك فذاكرة التاريخ تحتفظ برموز في السياسة ممن بدأوا حياتهم في بلاط صاحبة الجلالة أو السلطة الرابعة، ولكنهم اتخذوها جسرا الى مآلات أخرى أو ضاقوا بها ذرعا. من بين هؤلاء المستشار الألماني هيلموت شميت الذي عمل صحافيا في بدايات حياته، وقد قال عنه السادات في معرض رد له على سؤال لصحيفة «الأيام» السودانية 1981 حول مشاركة مصر رائدة عدم الانحياز في مناورات النجم الساطع مع أميركا، أن ذلك يذكره بما قاله له شميث بأن الصحافة قد علمته التحرر من عقد ما قبل الاستقلال، وأنه لا يتحسس من وجود القوات الأميركية في بلاده. والطريف أن السادات نفسه عمل رئيسا لتحرير «الجمهورية» بعد سنتين من ثورة 1952 التي اشترك في تنظيمها وقيادتها، وهو الذي القى بيان الثورة الاول في الاذاعة، وأعلن نهاية الملكية. وبعد سنتين في العمل الصحافي عاد الى الوزارة، ويعتقد ان خلافاته مع الصحافي المصري محمد حسنين هيكل «صحافي الثورة» بدأت في ذلك الوقت. وبدوره عمل هيكل، الذي بدأ حياته صحافيا، وزيرا للاعلام في آخر عهد الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وفي عهد خلفه السادات. وكتب هيكل في كتاب «لمصر لا لعبد الناصر» انطباعات ايجابية عن الفترة الاولى من حياته الصحافية، وهذا كان متوقعا لأنه كان صديقا ومستشارا لعبد الناصر. لكنه استقال وسط خلافات بعد وفاة عبد الناصر، وقال «حساسيتي من تصرفات اجهزة الأمن، كما في كل العصور، جزء من التكوين المهني والنفسي لصحافي يتمنى الحرص على تخوم مهنته، وتلك امور تترتب عليها نتائج في اجواء صراع على السلطة».

ومن السعودية الى المغرب، ومن السودان الى لبنان، تنقل كثيرون جيئة وذهابا بين البلاطين، بلاط صاحبة الجلالة وبلاط السلطة التنفيذية. فهناك اياد مدني، وزير الثقافة والإعلام السعودي حاليا، والذي عمل رئيسا لتحرير جريدة «سعودي غازيت»، ورئيسا لمجلس ادارة مؤسسة «عكاظ» للصحافة والنشر. وهناك عبد المحسن العكاس، وزير الشؤون الاجتماعية السعودي الحالي، الذي كان كاتبا صحافيا ومساعدا لرئيس مجلس ادارة الشركة السعودية للابحاث والتسويق. وهناك عبد الرحمن اليوسفي، رئيس وزراء المغرب السابق، الذي كان رئيسا لتحرير جريدة «التحرير».

وفي السودان ومع سنوات استقلاله الأولى عن بريطانيا 1956 انخرط لفيف من خريجيه في العمل الصحافي وزاوجوا بينه وبين العمل الحزبي والسياسي، وأشهر هؤلاء الراحلين يحيى الفضلي وعبد الماجد أبو حسبو ومحمد أمين، إذ ترأسوا رئاسة تحرير صحافة الحزب الوطني الإتحادي (النداء والعلم وصوت السودان) وفعل الشيء نفسه رصفاؤهم في حزب «الأمة» المنافس.

ومن أشهر الصحافيين الذين تحولوا الى سياسيين، خلال القرن العشرين، ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا خلال وبعد الحرب العالمية الثانية، وبونيتو موسوليني، دكتاتور ايطاليا قبل وخلال الحرب العالمية الثانية. فمع نهاية القرن التاسع عشر، غطى تشرشل، بعد ان تخرج من كلية «ساندهيرست»، الحملة العسكرية البريطانية لإخضاع قبائل الحدود الشمالية الغربية في شبه جزيرة الهند (الآن جزء من باكستان). وغطي الغزو البريطاني المصري للسودان، وكتب عنه كتاب «حرب النهر»، كما غطى لجريدة «مورننغ بوست» حرب جنوب افريقيا بين البريطانيين والهولنديين. ثم اصبح سياسيا.

وخلال نفس الفترة، كان موسوليني صحافيا في جريدة «لي بوبولو» (الشعب). وغطى الحرب بين ايطاليا وتركيا، وكتب عمودا ثوريا اسبوعيا في نفس الجريدة. ثم انضم الى الحزب الاشتراكي. ثم تحول نحو اليمين، وانضم الى الحزب الفاشستي، ونظم ميليشيا فاشستية اشتركت في القضاء على الملكية، وأصبح رئيسا للوزراء. ثم انقلب على حلفائه وأصبح دكتاتورا. والآن يمتلك سلفيو بيرلسكوني، رئيس الوزراء الايطالي الحالي امبراطورية اعلامية، فيها جريدة يومية وثلاث قنوات تلفزيونية. ويعتقد ان بيرلسكوني صرف على حملاته الانتخابية عشرين ضعف ما صرف منافسوه. ولأن التلفزيون الايطالي الحكومي لا يعرض اعلانات انتخابية، اضطر منافسوه لعرض اعلاناتهم في قنواته. وبعد ان فاز برئاسة الوزراء، واجه انتقادات كثيرة، منها انه اهمل تطوير التلفزيون الحكومي حتى تستفيد تلفزيوناته.

ايضا في بريطانيا، تحول مارتن بيل، المذيع في «بي بي سي»، الى السياسة، ومثل دائرة «تاتون» في البرلمان، ثم ترك السياسة وعاد الى الصحافة، ثم دعته جريدة «ايسترن ديلي برس» ليترشح للبرلمان الاوروبي. وقال انه وافق «نزولا عند رغبة هذه الجريدة العظيمة التي كتب فيها والدي عمودا اسبوعيا رائعا لأكثر من ثلاثين سنة.» ايضا تحول الصحافي البريطاني بوريس جونسون الى سياسي، وسيترشح في الانتخابات المقبلة في دائرة كان مثلها لورد هيزلتاين في مجلس العموم (قبل ان يدخل مجلس اللوردات). واللورد نفسه كان صحافيا، ثم اصبح سياسيا، لكنه لا يريد ترك الصحافة، ونقلت اخبار مؤخرة انه ينوي شراء مجلتي «ميديا نيوز» و«بريس غازيت» ببضع ملايين من الجنيهات.

وفي كندا، شرحت جين بريفز، التي كانت رئيسة تحرير جريدة «كرونيكل هيرالد«، وأصبحت وزيرة للتعليم في مقاطعة هالفاكس، قصة تحولها كالتالي «تقاعدت من الجريدة، وضمنت معاشي، ولزمت البيت. لكنني، بعد فترة، شعرت بالسأم، وقررت ان اصبح سياسية محلية، ولأنني كنت اكتب عن قضايا التعليم، اصبح ذلك تخصصي، وها انا وزيرة للتعليم». وفي كندا، ايضا، اصبح الصحافي رالف كلاين رئيسا لوزراء مقاطعة البرتا، اذ بدا حياته الصحافية مخبرا في جريدة محلية، ثم مذيعا تلفزيونيا في كالغري، ثم عمدة للمدينة، وفي عهده استضافت المدينة دورة الالعاب الاولمبية الشتوية في 1988 . وساعده نجاح الدورة على دخول وزارة المقاطعة، ثم اصبح رئيسا لوزرائها.

وآسيويا، تحولت نولي دي كاسترو المذيعة التلفزيونية في قناة تملكها عائلة لوبيز الغنية في الفلبين، الى سياسية وترشحت نائبة لرئيسة الجمهورية جلوريا ارويو. لكن ليز بأمنتوان، طالبة في جامعة الفلبين، كانت واحدة من كثيرين قالوا ان هذه صفقة بين الرئيسة ارويو وعائلة لوبيز، حتى لا تنقد التلفزيونات والصحف التي تملكها العائلة الحكومة. وفي الهند، كان كولديب نايار وارون شوري صحافيين في جريدة «انديا اكسبريس»، وأصبحا سياسيين ودخلا البرلمان ممثلين لحزبين مختلفين، وفي الهند ايضا، مثلما ثارت عاصفة أخيرا بسبب نشر خبر بأن وفدا باكستانيا زار الهند واجتمع مع سونيا غاندي، رئيسة حزب المؤتمر المعارض، واكتشف ان الذي سرب الخبر هو رجيف شوكلا، صديق سونيا، وكان مذيعا في تلفزيون «زي»، وأقنعته بأن يترك الصحافة الى السياسة. وفي الجارة باكستان، يعتقد ان اول من سرب اخبار تورط عبد القادر خان، ابو القنبلة النووية، في الشبكة السوداء للتقنية النووية كان مشاهد حسين، رئيس تحرير جريدة «المسلمون» الذي تحول الى السياسة، وأصبح أمين حزب «الرابطة الاسلامية».

خلاصة هذا أن كلتا المهنتين تحمل سمات الجذب والطرد، فصحافيون كثيرون رحلوا الى السياسة فاقتربوا من عض أصابع الندم، وقلة ساعدتها تجارب الصحافة في محاريب السياسة فأكسبتهم شمول النظر واستكمال (القصة) قبل التورط في القرار.