المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث السوري

قديم يحتضر .. وجديد لم يولد بعد

TT

«المؤشر ليس للإصلاح»، كان هذا حكم عدد من المتابعين لخطاب الرئيس السورى بشار الأسد في افتتاح المؤتمر القطري العاشر لـ «حزب البعث». خارج أروقة المؤتمر ساد الشعور بأن الخطاب تكفل برسم الخطوط العريضة للقرارات والتوصيات التي ستنبثق عن أعمال المؤتمر، بما فيها التأكيد على مبدأ «التدرج»، وما يعنيه ذلك من إشارة، ولو ضمنية، إلى أن هذا المؤتمر ليس سوى «محطة» على درب «التطوير والتحديث»، وإن جاء متأخرا. كما غابت عن لغة الخطاب أي مؤشرات إلى إصلاح جوهري، الأمر الذي عكس بدوره غياب تيار بعثي ذي ملامح فكرية إصلاحية يستطيع احتضان قرارات إصلاحية «مؤلمة» تعترف بالحقائق العنيدة في مواجهة مع النفس ترتقي إلى فهم أن الإصلاح بات مطلباً شعبياً عاما. كذلك جاءت سلسلة القرارات لتؤكد على أن المشكل الأساسي في سورية متعلق بضغوط القوى الخارجية، وإن مسألة الإصلاح هي مسألة في النهاية «ثانوية» ويسهل بالتالي تلبيتها لو تم وقف الضغط الخارجي.

إن اللعبة السياسية الداخلية أوصلت المؤتمر العاشر لحزب البعث فعلاً إلى مأزق محدد، هو مأزق المادة الثامنة من الدستور السوري المثيرة للجدل التي تنص على أن «حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع». فالدستور السوري يولي الحزب دوراً قائداً في أجهزة الدولة. وليس في هذا الأمر من شيء مدهش في نظام شمولي، لكنه أدى إلى حصول «ازدواجية» في ممارسة السلطات. من هنا الانزلاق الطبيعي من المناقشة الدستورية حول الصلاحيات الرئاسية إلى الجدل السياسي العنيف حول «امتيازات مراكز القوى»، حيث يلتقي النقاش الدستوري والجدل السياسي عند نقطة حساسة، بل موجعة، هي المادة الثامنة من الدستور.

المدافعون عن الدستور بشكله الحالي لا يعدمون الحجج، وهي كثيرة. أولى هذه الحجج تضمنتها إشارة الرئيس الأسد في خطابه حين أكد على أن «البعث قوة جماهيرية محورية في سورية»، وهو اعتراف ضمني على أن خيار التغيير غير قابل للتحقيق أقله في المرحلة الراهنة. أما الراغبون في تغيير هذه المادة فلا يعدمون حججاً من جانبهم، فهم يقولون ضمناً أو علناً إن إلغاء المادة الثامنة من الدستور يكسر احتكار «البعث» للسلطة وبالتالي يفسح المجال أمام احتمال تداول للسلطة في سورية ولو نظرياً على الأقل.

ولئن تعددت الأسباب التي دفعت بجل أعضاء المؤتمر لرفض أي تعديل قد يطرأ على هذه المادة، فأول هذه الأسباب أن هذا التعديل يعني فعلياً نهاية رسمية للتماهي الضمني بين حزب البعث والدولة السورية وللشعور الدفين بأن للبعثيين أرجحية دستورية في تثبيت دعائم الكيان السوري واستمراره. ويعني هذا التعديل أيضاً أن حزب البعث أصبح حزباً بين الأحزاب بلا تمييز لا لدوره «التاريخي» ولا لحاجته إلى ضمانات تقيه تقلبات المستقبل في منطقة باتت فيها رياح التغيير تهب من كل حدب وصوب.

وفي مجال «التعددية السياسية» سجلت التوصيات التي خرج بها المؤتمر القطري قطيعة نسبية مع الماضي، حين أقر قانوناً جديداً للأحزاب، بعد أن أصبحت المطالبة به عامة بغرض «توسيع المشاركة السياسية ودراسة وسائل وسبل المشاركة لأكبر شريحة لتشمل جميع المواطنين»، في إشارة خجولة إلى إقرار مبدأ «التعددية السياسية».

وبما أن مبدأ «التعددية السياسية» بالنسبة لسورية، ليس ضرباً من الفن للفن، فقد تم إحالة «قانون الأحزاب» الجديد إلى لجان لدراسة الشروط التي ينبغي أن تتوفر في هذه الأحزاب التي عليها أن تتمتع بـ «قاعدة وطنية» تتمثل في أن تكون لكل حزب جديد فروع في كل المحافظات، وأن يتجاوز عدد أعضاء الحزب الواحد عشرين ألفاً، مع اشتراط ألا يعتمد على أسس عرقية أو دينية.

هنا، ثمة من يحاول جاهداً الاختباء وراء أصابع يديه، ذلك أن التعددية السياسية تعني، في جوهرها، فتح الإمكانية الحقيقية لاستبدال فئة حاكمة بأخرى بالوسائل السلمية القانونية. يعني هذا أن تعدد الأحزاب من دون إعطائها الحق في الوصول إلى السلطة سيبقي الحال على ما هي عليه، بل قد يزيدها تعقيداً، وبالتالي فهي لعبة خطرة تقوم على كسب الوقت وإهدار إمكانية الانتقال السلمي للسلطة من فئة إلى أخرى ومن حزب إلى آخر. وليس خافياً على أحد أن «التعددية السياسية» لن تصدر عن نظام شمولي، بل عن ميزان قوى بين الدولة والمجتمع المدني، يشعر فيه الحاكم أنه فعلاً بحاجة إلى عقد جديد مع المجتمع المدني لكي لا تنهار الدولة تماماً ويندحر النظام بصورة كاملة. ومنطلق ميزان كهذا لا يقوم على التشديد من قبضة جهاز الدولة على المجتمع المدني، بل على حدود واضحة ومحترمة تقتضي إلغاء حالة الطوارئ المستمرة منذ أكثر من أربعة عقود التي غالباً ما استعملت لتبرير تفكيك الحياة السياسية في سورية. أما «توصية» المؤتمر العاشر للحزب بـ «التخفيف من وطأة الأحكام العرفية»، فهي ليست سوى لعبة سلطوية تقوم أساساً على إدامة التشديد من القبضة الأمنية على المجتمع المدني السوري.

لكن لا شك أن الموقع الأكثر تعبيراً عن اللحظة في تعاطي المؤتمر القطري لحزب البعث، هو تلك الفقرات التي تتحدث عن مزيد من الانفتاح في المجال الاقتصادي، حيث تم اعتماد مصطلح «اقتصاد السوق الاجتماعي» أو «اقتصاد السوق بما يتلاءم مع الواقع الاجتماعي للسوريين» كمسوغ جديد بدلاً من استخدام عبارة «اقتصاد السوق» أو «الاتجاه نحو الخصخصة»، بما فيها «تحرير التبادل التجاري ودعم الاستثمارات الخارجية من أجل التسريع بدمج الاقتصاد السوري بالاقتصاد الدولي»، مع التشديد في الإبقاء على هيمنة الدولة على مفاصل العملية الاقتصادية للبلاد.

هذه الهيمنة على مجرى الاقتصاد السوري تعني، من الناحية الجوهرية، أن السلطة لن تسمح بظهور مراكز قوى سياسية قائمة على مصالح اقتصادية. وما يجدر التذكير به هنا أن سياسة الانفتاح الاقتصادي النسبية التي اعتمدها النظام القائم منذ منتصف السبعينات لم تشجع القطاع الخاص على الاستثمار في الصناعة، بقدر ميله إلى قطاع الخدمات والاستثمارات غير الإنتاجية، لاسيما التجارة والبناء، وبالتالي لم تسع السلطة إلى أي تغيير حقيقي في بنية الاقتصاد، وربما ستكون الآثار الإنتاجية لـ «الانفتاح» الأخير مماثلة إلى حد كبير للنسخة السابقة. أما قرار المؤتمر باعتماد قوانين جديدة للإعلام المرئي والمسموع والمقروء، بما فيها التوصية بتعديل «قانون المطبوعات»، فإنها ستبقى رهناً بيد اللجان الحكومية التي ربما تسير في دروب الإجراءات البيروقراطية، وتتكدس في ملفات بجوار غيرها التي عفى عليها الزمن. ولكن ماذا عن الشأن السياسي إزاء التعاطي مع ملفات الخارج الساخنة؟ تجيب التوصيات بضرورة اتباع «الحوار الموضوعي البناء» مع الولايات المتحدة، وإعطاء الأولوية «لترميم الصدع في العلاقات مع لبنان» والعمل على «تصحيح الخلل مع العراق». هذه «التوصيات» رأينا فيها مؤشرات متفرقة خلال الفترة التي سبقت انعقاد المؤتمر العاشر، فتابعنا دمشق، محورية ساعة، منفردة أخرى، منفتحة حيناً، متشنجة حيناً آخر.

وقد يكون مرد هذا التذبذب الدبلوماسي التسرع في التأقلم مع وقائع سياسية واستراتيجية جديدة. وإن كانت دمشق قد استعملت جميع وسائل الإقناع مع الطرف الأميركي، فعليها الاعتراف اليوم بأن ليس بيدها أي ورقة ضغط فعلية لإقامة «حوار موضوعي وبناء» مع واشنطن. فالكرة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، في ملعب دمشق. وبما أن الأمور لا تنتفي مجرد توقفنا عن النظر إليها، فإن الأزمات المتراكمة لن يستطيع المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث أن يبحث عن حلول جذرية لها. وإلى إشعار آخر، سيبقى القلق خبز السوريين اليومي.

* كاتب وأكاديمي عراقي مقيم في فيينا