جيوش من الأطفال

مليونا طفل قتلوا في الحروب.. 6 ملايين أصيبوا بإعاقات مستديمة أو جروح خطيرة .. مليون تشردوا وتيتموا

TT

«كانت حياتي عبارة عن كابوس مفزع، فقد عانيت كثيرا من تلك المعاملة الوحشية التي كنا نتلقاها. كانوا يضربوننا باستمرار، وغالباً بدون أي سبب وإنما ليدخلوا الفزع والرعب في قلوبنا. ما زالت هناك ندوب على وجهي وآلام في معدتي من آثار الضرب والركل الذي وجهه لي كبار الجنود. كان الطعام شحيحاً ومع ذلك كانوا يجبروننا على المشي ونحن محملون بالأثقال التي لم تحتملها أجسادنا الضئيلة والتي تعاني من سوء التغذية. لقد علموني كيف أحارب العدو في حرب لا أعرف عن دوافعها شيئا». هذه العبارة جاءت على لسان أحد الأطفال المجندين سابقاً في جيش جواتيمالا، الذي وقع ضحية استغلال الميلشيات المسلحة له للانخراط فى حرب ضارية. وبمناسبة احتفال العالم يوم 12 يونيو الجارى باليوم العالمي لمنع عمالة الاطفال، اظهرت المؤسسات الدولية المعنية بظاهرة عمالة الاطفال ان الظاهرة الخطيرة تتفاقم وتتسع لتشمل العالم كله، بما في ذلك بعض الدول الاوروبية. غير ان تجنيد الاطفال كمقاتلين في الميلشيات المسلحة في المناطق التي تشهد حروبا اهلية او نزاعات مسلحة اقليمية من اسوأ اشكال عمالة الاطفال على الاطلاق بسبب انتهاكها لأساسيات حقوق الانسان وأولها الحق في الحياة. وتوضح الأرقام المخيفة التي ترد في التقارير الدولية الثمن الباهظ الذي يدفعه الأطفال جراء الحرب. فيشير تقرير اليونيسف (2004) مثلاً إلى أنه خلال العقد الماضي لقي اكثر من 2 مليون طفل مصرعهم كنتيجة مباشرة للنزاعات المسلحة، في حين أصيب حوالي 6 ملايين طفل بإعاقات مستديمة او بجروح خطيرة، كما تسببت النزاعات في تيتم وتشريد اكثر من مليون طفل.

ولكن تبقى ظاهرة الأطفال «المجندين» الذين يشاركون في صفوف القوات المتحاربة إما بحملهم للسلاح وانخراطهم في القتال فعلياً أو القيام بمسؤوليات أخرى، هي أخطر ما يهدد حياة هؤلاء الأطفال وسلامتهم النفسية والجسدية ويسلب منهم حق الطفولة والحق في حياة آمنة ينمون فيها نمواً طبيعياً. وقد ينتهي الحال بالأطفال، وفقاً لما ورد على لسان كيسي كيسلو رئيس «الائتلاف من أجل وقف استخدام الجنود الأطفال»، الى أن «يصبحوا هم من يشعلون الحروب بدلاً من أن توفر لهم الحماية من أهوالها».

ويُزج بالأطفال في محرقة الحرب بأساليب متنوعة، منها الطوعية ومنها القسرية. من ذلك أن يتعرض الأطفال للاختطاف بغرض استخدامهم كمجندين، أو بوقوعهم تحت تأثير الدعاية الأيديولوجية أو كنتيجة لمعاناة أسرهم من الفقر الشديد مثلاً، بينما يظل التجنيد القسري هو الاتجاه الأبرز في أغلب الحالات. ويمثل الأطفال هدفاً سائغاً للتجنيد، حيث يستخدم القادة العسكريون أساليب عدة للزج بهم في أتون الحرب، تارة بالترغيب وأخرى بالترهيب. عادة ما يتمثل الاغراء في توفير الملجأ والغذاء لأطفال يعانون الأمية في الغالب وينحدرون من خلفيات فقيرة أو من أسر شتتها الحروب، إذ يكون انخراطهم في سلك الجندية هو الفرصة الوحيدة لبقائهم على قيد الحياة. ويعتبر هؤلاء القادة أن تجنيد الأطفال هو إضافة حقيقية يعوضون بها المفقودين والقتلى والجرحى في صفوف قواتهم. إضافة إلى أن الأطفال المجندين هم أقل استهلاكاً للغذاء وأكثر طاعة لأوامر القادة ومن السهل التأثير عليهم واخضاعهم مقارنة بأقرانهم البالغين. وقد صار تجنيد الأطفال عملاً مقنناً ومنظماً حتى ان بعض المصانع العسكرية التي تعمل خارج اطار القانون صارت تقوم بتصميم أسلحة سهلة الاستعمال وذات أحجام صغيرة ـ حسب الطلب ـ لتتناسب وضآلة أجسام الأطفال وتمكنهم من حملها والتحكم فيها.

ويقوم الأطفال بمهام متنوعة في ميدان المعركة فيحمل بعضهم السلاح، وهؤلاء دائماً ما يدفع بهم القادة للصفوف الأمامية، والبعض الآخر يقوم بأدوار مساعدة كجواسيس أو طباخين أو في مهمات أخرى كزرع الألغام، وهناك العديد منهم ممن يُستغلون جنسياً سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً.

ومن البديهي القول ان لوضع هؤلاء الأطفال انعكاسات خطيرة على واقعهم ومستقبلهم. فنتيجة لعدم بلوغهم النضج العقلي والجسدي يفقد الكثير منهم أرواحهم أو يتعرضون لاصابات بالغة، ودائماً ما يحدث هذا بمعدلات أعلى بكثير مما يحدث للجنود البالغين، ناهيك عن تعرضهم للإصابة بأمراض خطيرة كسوء التغذية والايدز وغيرها.

وحتى بعد انتهاء الحرب أو تسريح أو فرار الطفل المجند من مناطق العمليات العسكرية، يواجه الطفل مستقبلاً محفوفاً بالمخاطر، فهم دائماً لا يجدون قبولاً عند عودتهم الى ذويهم، كما أنهم يكونون أكثر عرضة من غيرهم لإعادة تجنيدهم مرة أخرى. وفي جو الحروب الحافل بكافة أنواع المآسي والفظائع، لا تنجو حتى الفتيات من التجنيد، حيث يتعرضن للاستغلال الجنسي والاغتصاب وقد يؤخذن كرفيقات أو زوجات لقادة الحرب. وهناك العديد من المحاولات المستمرة عبر مؤسسات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية وغيرها من الجهات المعنية لتقنين معايير دولية تضمن حماية الأطفال من الحروب، وتحث من خلالها الحكومات والأطراف المتحاربة على اتخاذ كافة الضمانات التي تمنع تجنيد الأطفال. وقد كانت الأمم المتحدة قد أقرت في «البروتوكول الاختياري لميثاق حقوق الطفل» المتعلق بظاهرة تجنيد الأطفال في النزاعات المسلحة أن تجنيد أي فرد لم يبلغ الثامنة عشرة من العمر هو «جريمة حرب دولية»، ودخل هذا البروتوكول حيز التنفيذ 2000. ويعتبر البروتوكول الاضافي الملحق باتفاقية حقوق الطفل هو أبرز المجهودات التي تتبناها الأمم المتحدة، والذي يتضمن أيضاً مطالبة حكومات العالم برفع الحد الأدنى لسن التجنيد الاختياري. واذا اعتبرنا أن ما تدعو له المواثيق الدولية هو إجراء وقائي لمنع حدوث الظاهرة أصلاً فإن بعض التدابير قد اتخذت بالفعل لوضع برامج لتسريح الأطفال المجندين وإعادة تأهيلهم. من ذلك قصة الأطفال السودانيين التي غطتها أجهزة الاعلام خلال 2001 عندما أعلنت اليونيسيف بالتعاون مع لجنة الصليب الأحمر الدولية عن عملية كبرى في جنوب السودان تم فيها ترحيل 2500 طفل محارب تتراوح أعمارهم بين 8 ـ 18 عاماً خارج مناطق عمليات الجيش الشعبي لتحرير السودان لمناطق أكثر امانا ووضعت برامج لإعادة تأهيلهم وإرجاعهم الى أسرهم. في ظل هذا الوعي المتنامي بضرورة التصدي لانتهاكات حقوق هؤلاء الأطفال ووقف تجنيدهم ظهرت مبادرات أخرى تدعو للتنسيق وتضافر الجهود بين الجهات المعنية بحقوق الإنسان والطفل أهمها المبادرة التي أسفرت عن تأسيس «تحالف وقف تجنيد الأطفال». ومثل هذه المبادرات وغيرها من الجهود تدعو بالفعل للتفاؤل خاصة إذا ما امتدت تلك الجهود لتشمل التنسيق بينها وبين الجهات المحلية في الدول المعنية.