القلم والسيف

من الأنبياء إلى الفلاسفة والمفكرين والشعراء وحملة الأقلام .. القضية واحدة

TT

* «ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل شيء وكان الإنسان أكثر شيء جدلا» (قرآن كريم).

* لا تحلموا بعالم سعيد .. فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد (الشاعر المصري الراحل أمل دنقل).

إنداحت المقالات شرقا وغربا تنعي وتمجد في شهيد الصحافة اللبنانية والعربية سمير قصير، والذي نسفت جسده أياد آثمة لم تطق الرأي ، بعد أن ضاع من بين يديها حتى سلاح الإقصاء أو ملكية الزنازين والسجون، فكمنت له لتحول جسده الى أشلاء ، مثلما انداحت المقالات، وإن بقدْر أقل ، حول ضيف الغزال الصحافي الليبي الذي كمن له آخرون يشربون من نفس مشكاة قتلة سمير قصير ، أو قتلة زميله الليبي مصطفى رمضان الذي كمن له قتلة في شوارع لندن الخضراء في زمان مضى ، بل ومن قبلهم قتلة يوسف السباعي الذي هاجر قاتلوه ليكمنوا له في قبرص، وفرج فودة في شوارع مصر ، وسليم اللوزي بعد حرق أصابعه في لبنان، ونقيب صحافة لبنان رياض طه، والقائمة طويلة طول ليل الشاعر الجاهلي امرئ القيس ، الذي ناء ولم يستجب لدعوة الشاعر بأن ينجلي بصبح. القائمة طويلة ، وفيها ناجي العلي وعبد الوهاب الكيالي وغيرهم .

ولكن حتى لا يفتئت الصحافيون حقوق أناس لاقوا ما لاقوا لقاء رأيهم أو مبادئهم ، أو قل حتى عقائدهم ، فالقضية في عصبها الحي هي تلك الجدلية القائمة والممتدة بين الرأي والسيف. فلنربط الأحزمة معا، ولنقلع أو نبحر في فضاءات هذه الجدلية لنرى كيف أن وجبات القتل والإقصاء قد مورست على الأنبياء والراشدين والفلاسفة والشعراء ، من قبل أناس ضيقي الصدور والأفق، بل وجاهليين. أوَ لمْ يقل رسولنا الكريم محمد لكل إنسان رآه كثير الغضب كثير الشجار:«أنت امرئ فيك جاهلية».

فلتبدأ الرحلة إذن من مكان ما مع ابني سيدنا آدم ، أوَ لمْ يقتل هابيل شقيقه قابيل لمجرد أن السماء لم تتقبل قربانه ، لتستمر وجبات الموت والإقصاء فتطال أب الأنبياء سيدنا إبراهيم ، الذي أوثقه قومه وألقوا به في النار لمجرد مجادلته لهم في عدم جدوى الأوثان. وعلى ذلك قس سيرة الأنبياء، موسى وعيسى ومحمد، وجميعهم قد أجبر على الهجرة من المكان الذي دشن فيه دعوة التوحيد .

ولندخل محاريب الفلاسفة ، فذلك هو أرسطو (384 ـ 322 قبل الميلاد ) رمز الفلسفة، والذي ألف في ذلك الزمان الغابر 170 مؤلفا، ومن أثينا مهد الفكر والديمقراطية ، يتَّهم بالإلحاد فيقرر الهرب لتلتهمه المنافي ويموت فيها تاركا عبارته الشهيرة : «لن أسمح لأثينا أن ترتكب خطيئة ثانية ضد الفلسفة)، وإشارته هنا الى ما فعلَته مع أستاذه سقراط الذي قتلوه بالسم . ولنغادر الى رحاب العلماء ، وذلك هو غاليليو الذي أقصته ونفته الكنيسة لمجرد قوله: إن الأرض تدور.

ولنترك أوروبا برحلة أخرى الى بغداد. فذلك هو المأمون العباسي، الذي طالما حفظت له مناهجنا الدراسية عظمته وتدشينه لعصر من التنوير بتنشيط الانفتاح الفكري بما عرف بعصر الترجمة ، كتب الى اسحق بن ابراهيم والي بغداد رسالة وصف فيها مخالفيه في جدلية قدم القرآن وحداثته التي شغلت الأئمة والفقهاء مع ازدهار علم الكلام كتب يصف مخالفيه: إنهم من حشو الرعية وسفلة العامة وأهل جهالة بالله وعمي عنه وضلالة عن حقيقة دينه)، فأي ضيق بالرأي المخالف كهذا ؟ ومن عجب أن من بين من قصد بذلك الوصف الإمام أحمد بن حنبل ، فسجنه، وحين وافاه الأجل وآل الأمر الى خليفته المعتصم استدعى الإمام وأوشك أن يعفو عنه لولا أن اسحق بن ابراهيم قال للخليفة: يا أمير المؤمنين ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله فيكون كمن انتصر على خليفتين ، فتراجع المعتصم عن رأيه وقال: خذوه وأخلعوه واسحبوه . فجاء حملة السياط وجردوا الإمام أحمد من ثيابه لتبدأ رحلة أخرى من التعذيب.

وذاك هو العلامة إبن المقفع الذي كان بينه وبين سفيان بن معاوية مزاح وهذر دفعه الى أن يتجرأ على الخليفة ويقول له السلام عليكما ، لأن أنف الخليفة كان كبيرا وكأنه يكفي لاثنين، فدس عليه سفيان لدى الخليفة المنصور في بغداد فأذن له بقتل الأديب ، فكان أن جاء بتنور وأخذ يقطع من جسم الأديب شريحة فشريحة ويلقي بها والأديب ينظر الى أعضائه وهي تغلي في التنور الى أن قضى نحبه.

وذاك هو الشاعر المبدع بشار بن برد ، دعاه الخليفة المهدي الى حضرته فجأة ومعه السياف ، فقال الشاعر: علام تريد قتلي ؟

فقال : لقولك :

رب سر كتمته فكأني - أخرس أو ثنى لساني عقلي فقال الشاعر : كنت زنديقا ولكني تبت .

فقال الخليفة المهدي: كيف تتوب وأنت القائل :

والشيخ لا يترك عاداته - حتى يوارى في ثرى رمسه فكان أن غافله السياف فإذا رأسه يهوي، لتنتهي حياة شاعر لم تشفع له حتى التوبة.

شواهد التاريخ كثيرة ، ولكن عصب القضية يكمن في جدلية الرأي والسلطة، أو القلم والسيف، وقد تيقن شاعر نبيه وصاحب فكر مثل المتنبي، وبعد تجربة ساح فيها بين بلاط وبلاط من حلب مع سلطة أبي فراس الحمداني والى كافور الإخشيدي في مصر، تيقن من سطوة السلطة والسيف فقال ببيت شعره المشهور :

السيف أصدق أنباء من الكتب ليستدير بذلك، أي المتنبي ، عن قوله:

الرأي قبل شجاعة الشجعان - هو أول وهي المحل الثاني ومن هنا، والى أن يقترب صبح كمثل ذلك الذي طالب به امرئ القيس، ستكون الغلبة لسنان السيوف على سنان الأقلام ، وسنعيش نشهد، وإن الى حين، توابيت تلحق بسمير قصير وضيف الغزال ، أقلها في منطقتنا العربية التي ما زالت تحتفظ بحفدة للحجاج بن يوسف الذي لم يطق حكمة شيخ صالح مثل جامع المحاربي، يوم شكا الحجاج لجامع ما أسماه سوء طاعة أهل العراق، فدار هذا الحوار الذي نختتم به لوحة جدلية السيف والرأي:

الحجاج : إني والله ما أرى أن أرد بني اللكيعة (يقصد أهل العراق) الى طاعتي إلا بالسيف.

جامع : إن السيف إذا لاقى السيف ، ذهب الخيار.

الحجاج: الخيار يومئذ لله.

جامع: أجل، ولكنك لا تدري لمن يجعله الله.

الحجاج: والله لهممت أن أخلع لسانك فأضرب به وجهك.

جامع : إن صدقناك أغضبناك، وإن غششناك أغضبنا الله ، فغضب أمير المؤمنين أهون.

رحم الله شهداء الرأي وحملة الإقلام ممن قضوا نحبهم في هذا المسلسل الطويل من جدلية الرأي والسيف.