لسان العالم

TT

تقول الأسطورة إن البشر كانوا يتحدثون في البدء لغة واحدة، غير أنهم عندما بنوا برج بابل كي ينظروا إلى ما الذي تخفيه السماء داخلها، غضب الله عليهم، وقرر أن يجعلهم يتحدثون أربعين لغة مختلفة، كي ينعدم التفاهم بينهم، وتفشل خططهم في التصنت على السماء. تلاشت الأسطورة، وعاشت حقيقة أن البشر يتحدثون اليوم نحو 6500 لغة، غير أن اللغة لم تكن دوما وسيلة للتقارب بين الناس، فهي أحيانا تكون سببا للصراع، كما أن اللغة «أداة سياسية» قوية، تستخدمها القوى والحكومات لتحقيق السيطرة والاندماج الاجتماعي، بل والتبعية الثقافية.

فاللغة ما زالت، مثلا، تجمع الباكستانيين والهنود، بالرغم من الصراع السياسي الطويل بينهم، والذي بدأ منذ استقلت باكستان عن الهند نهاية الأربعينات، وإن كان اسم اللغة مختلفا، ففي الهند تسمى «الهندية»، وفي باكستان تسمى «الأردية». كما أن أحد الأسباب الرئيسية للوحدة الألمانية عام 1989 كانت وحدة اللسان، فقد أزالت الوحدة اللغوية في ألمانيا جدار برلين. وفى ايرلندا على سبيل المثال. وعلى الرغم من الاندثار الشبة الكامل للغة الايرلندية المعروفة باسم الجاليك «Gallic»، وطغيان اللغه الانجليزيه على حسابها، إلا أن المادة الثامنة من الدستور الايرلندي لا تزال تشير إلى اللغه الجاليكية كلغة رسمية للجمهورية الايرلندية، وذلك كعامل موحد رئيسي للايرلنديين.

لكن على النقيض من ذلك، توجد فى الصين لغتان مختلفتان كليا عن بعضهما البعض، هما المندريني والكاتنونيزي، إلا أنه يشار إلى كل منهما على أنها لغة واحدة، وهي «اللغة الصينية». هذا بالرغم من أنه لو تحدث أحد باللغة الماندرينية مع شخص آخر يتحدث اللغة الكانتونيزية، فإنهما لن يفهما بعضهما البعض. أضف إلى ذلك أن تايوان، التى تعتبرها الصين جزءا منها، تتحدث بلغة تايوانية «Taiwnese» تختلف عن كل من المندريني والكاتنونيزي، ومع ذلك يشار إليها بالصينية أيضا. وبالطبع في ذلك اضطهادا للتايوانيين.

وقد يؤدى الاختلاف اللغوي إلى الشقاق السياسي حتى داخل الوطن الواحد، ففي كندا، حيث يوجد اقليم كوبيك «Cubic»، الذي يتحدث سكانه اللغة الفرنسية، تعززت النزعات الانفصالية فى الإقليم للاستقلال عن كندا على ان أساس أن اللغة الانجليزية التى تتحدثها غالبية السكان، تحمل ضمنا ثقافة تختلف عن الثقافة التى تحملها اللغة الفرنسية.

وفى سويسرا توجد أربع لغات، هي الألمانية والفرنسية والايطالية والرومانية، وعلى الرغم من اعتراف سويسرا باللغات الأربع كلغات رسمية لها، إلا أن هذا لم يمنع من وجود حركة وطنية في الجزء الفرنسي من سويسرا المعروف بمنطقه جبال «الجورا» في مقاطعة جنيف ولوزان بالتحديد، مطالبة بالاستقلال عن سويسرا على أساس العامل اللغوي، وذلك خلال أواخر السبعينات، وإن تناقصت القوة السياسية للحركة الآن بسبب عدم طغيان أي من اللغات الأربع على الأخرى.

ومن قوة تأثير اللغة، استخدمها الفرنسيون والبريطانيون لتوطيد أركان امبراطوريتيهما، خلال الاستعمار الفرنسى لأفريقيا والمغرب العربي، والاحتلال البريطانى للكثير من بلدان آسيا، فعندما احتلت فرنسا الجزائر 1830 فرضت على اللغة العربية قيودا شديدة، وصلت إلى حد منع التحدث بها. واعتبرت الجزائر على هذا الأساس إحدى المحافظات الفرنسية. وكان من أهم العلامات الذي ميزت الحركة الوطنية في الجزائر في كفاحها ضد الاستعمار الفرنسي، هو استرداد ثقافة اللغة العربية مرة أخرى، ونشرها بين سكان الريف والحضر معا. أما الاستعمار الانجليزي في الهند فلم يختلف كثيرا وإن اختلفت آلية التطبيق، فقد فرضت اللغة الانجليزية على حساب اللغات الهندية المحلية الكثيرة التى تقارب 200 لغة. كذلك استخدمت الولايات المتحدة اللغة الانجليزية لتحقيق الاندماج الاجتماعى عندما تم إعلان استقلالها عام 1776. فمع إعلان الاستقلال عمل السكان الأوائل للقارة الجديدة على إزالة لغات الهنود الحمر، وكل اللغات الأوروبية الأخرى وتكريس اللغة الانجليزية لغة موحدة للسكان الجدد.

وكما تتصارع الدول تتصارع اللغات، ومن هنا يأتي تحذير علماء اللغة من هيمنة اللغات الكبرى على الصغرى. فاللغة المعروفة باسم بريتني «Brittany» في جنوب غرب فرنسا مهددة بالاندثار. والسبب في ذلك هو تعميم السلطات الفرنسية للغة الفرنسية كلغة وحيدة لجميع المواطنين، «إذا كان لفرنسا أن تكون وطنا واحدا، فإنه يجب أن تكون لها لغة واحدة أو لسانا واحدا، ومن أجل الوحدة اللغوية في فرنسا يجب زوال لغة بريتني»، على حد قول وزير التعليم الفرنسي عام 1925. وكرد على الوطنية الفرنسية القائمه على اللغة الواحدة، قام البريتنيون بتأسيس حزب سياسي عام 1950 قام اساسا على الوحدة اللغوية بينهم، ويطالب بالانفصال عن فرنسا والعودة إلى جذورهم التي تعرف بالكلتيكية «Celtic»، والتي تجمعهم مع الايرلنديين وسكان مقاطعة ويلز في بريطانيا. ومن أمثلة الصراع بين اللغات، انه عندما احتلت إسرائيل فلسطين، وأقامت الدولة الإسرائيلية عام 1948، تم اختيار العبرية كلغة رسمية للدولة، وذلك على حساب لغة الايدش «Yiddish»، التى كان يتحدث بها يهود أوروبا الشرقية.