صراع الأغنياء.. على الفقراء

لماذا لم تنه قمة بوش ـ بلير الخلافات بين أوروبا وأميركا بشأن مكافحة الفقر؟

TT

باتت الخلافات بين اميركا وأوروبا حول تخفيف والغاء الديون على اكثر الدول فقرا في افريقيا، تباعد بين الطرفين اكثر في كيفية ادارة المشكلات الدولية الملحة ومنها الاحتباس الحراري والايدز ومكافحة الارهاب والجريمة المنظمة وانتهاكات حقوق الانسان. وبسبب هذا التباعد المتزايد وتأثيراته الخطيرة على الاستقرار في العالم، اجرى رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، الذي يوصف بأنه حلقة الوصل بين اوروبا واميركا، محادثات منتصف الاسبوع مع الرئيس الاميركي جورج بوش بغرض تقريب المواقف الأوروبية الأميركية فيما يتعلق بمكافحة الفقر في العالم، قبل انعقاد قمة الثماني المقررة في اسكوتلندا يوليو (تموز) المقبل. فما هي جذور الخلافات بين الجانبين، وهل ساهمت القمة في تقريب الهوة. حصل بلير من بوش على تعهد بالعمل مع الأوروبيين على مساعدة الدول الأفريقية الفقيرة وإلغاء ديونها خلال قمة الثماني، لكن الأرقام المعلنة لما ألزمت به أميركا نفسها لم تصل إلى مستوى الطموح الأوروبي. وقد أعلن بوش في مؤتمر صحافي مشترك مع بلير انهما بحثا مبادرة لتقديمها في قمة الثماني تقضي بإلغاء كامل لديون الدول الأكثر فقرا، دون إعطاء مزيد من التفاصيل. لكن خبراء السياسة والاقتصاد لا يتوقعون أن يتم الأمر بمثل هذه السهولة.

* أعذار الإدارة الأميركية

* تطرح واشنطن مبررات تبدو مقنعة للوهلة الأولى لتفسير تلكؤها في تقديم مساعدات او الغاء الديون الافريقية. ومن تلك المبررات التي يطرحها بوش قوله إن «لا أحد يريد أن يعطي الأموال إلى دول فاسدة حيث الرؤساء يأخذون تلك الأموال ويضعونها في جيوبهم»، كما يرفض بوش المقترحات الأوروبية المتعلقة بتخصيص التزامات طويلة الأجل لمساعدة الدول النامية، قائلا إن القانون الأميركي يمنع قيام الرئيس أو الإدارة الحالية بإلزام الرؤساء القادمين والإدارات اللاحقة بنفقات لم يؤخذ رأيهم فيها. ولكن هذه الأعذار لا تلق قبولا لدى الجانب الأوروبي الذي يرى أن اميركا لديها قدرات والتزامات أخلاقية بالمساعدة. كما يرون أن الثقة المفرطة لواشنطن بحيوية اقتصادها تتعارض تماماً مع ادعاءاتها بأنها لم تَعُد قادرة على دفع ما يترتب عليها من التزامات ومسؤوليات دولية. وبسبب تراجع المعونات التي تقدمها الولايات المتحدة للعالم، بدأ الأوروبيون يشعرون باليأس وهم يرون أن الولايات المتحدة تدفع أقل بكثير مما يدفعون. ومع ذلك فقد أكد بوش أن بلاده ستخصص هذه السنة نحو 700 مليون دولار كمساعدة طارئة لأفريقيا لمواجهة مشاكلها الغذائية. كما أعلن استعداده لتخفيف الديون على الدول التي تلتزم بالإصلاح واقتصاد السوق الحر. وفي المؤتمر الصحافي مع بلير، تحدث بوش عن نشر الديمقراطية والحرية في العراق وأفغانستان والشرق الأوسط الكبير، متجاهلا في البداية أن زيارة بلير جاءت للتركيز بالدرجة الأولى على مسألة الديون والوضع القاتم في أفريقيا تحديدا.

غير ان بوش سرعان ما تدارك الأمر وتحدث عن الوضع في أفريقيا قائلا إن إدارته حققت تقدما تاريخيا في مساعدة الفقراء في أفريقيا لبناء مستقبلهم وتوفير فرص الرخاء والازدهار لهم، وقال إن أميركا تكفلت بربع المساعدات التي تقدم للقارة الأفريقية وأنها سوف تقدم المزيد.

وأضاف بوش أن 414 مليون دولار من المساعدات الفورية سوف توجه لإنقاذ الجائعين في القرن الأفريقي في إثيوبيا وإريتريا. أما رئيس الوزراء البريطاني فقد دعا إلى مساعدة أفريقيا ليس بإلغاء ديونها فقط بل بمساعدتها على مواجهة المشكلات الخطيرة فيها، خصوصا الايدز والسل وشلل الأطفال والملاريا وهي الامراض التي تؤدي الى شلل اقتصادي ومآسي انسانية. كما اقترح بلير تشكيل إطار عمل للتعامل مع مشكلات أفريقيا كوحدة واحدة عن طريق الشراكة مع أولئك القادة الأفارقة الذين يشاركون الغرب قيمة الديمقراطية والحرية. ومن جانبه يخطط رئيس البنك الدولي بول وولفويتز للقيام بجولة أفريقية لعدد من الدول هي نيجيريا وبوركينا فاسو ورواندا وجنوب أفريقيا يوم 12 من الشهر الجاري. ويمول البنك الدولي حاليا 334 مشروعا تنمويا في أفريقيا بكلفة إجمالية تصل 16.6 مليار دولار. وقد أكد وولفويتز حاجة الدول الفقيرة إلى المزيد من المساعدات. وأوضح أن الدول الأفريقية استوعبت الحاجة إلى قيادة مشاريع تنموية، مشيرا إلى أن بعض الدول مثل نيجيريا بدأت تتخذ إجراءات «شجاعة» ضد الفساد.

* جذور الخلاف الأميركي ـ الأوروبي

* بدأت الخلافات الأميركية الأوربية تظهر للعلن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان خصما مشتركا يوحد بين ضفتي الأطلسي. فمع بداية التسعينيات من القرن الماضي بدأت الخلافات التجارية الأوروبية الأميركية تتصاعد، كما ساد اعتقاد أن تحالف الطرفين الذي كان قائما في السابق في إطار حلف شمال الاطلسي (ناتو) فقد الكثير من وظائفه بعد انتهاء الحرب الباردة، فالخطر العسكري السوفياتي تراجع على نحو واسع، ولم تعد أوروبا بحاجة إلى مظلة الدفاع الأميركي. ويقول الكاتب برايان وايت في كتاب له تحت عنوان «فهم السياسة الخارجية الأوروبية»، إن النظام الدولي الجديد يركز على الاقتصاد على نحو أكبر، مما يعطي مساحة أوسع للتنافس والخلاف بين قوى الأطلسي الأوروبية والأميركية، ويعزز فرص أوروبا موحدة للعب دور دولي أكبر. وجاءت بعض الشواهد لتعزز مثل هذا التحليل فالخلافات التجارية تصاعدت ووصلت حد المعارك الاقتصادية، كتلك التي حصلت في أثناء التفاوض على تعديل الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفة الجمركية (الغات) (1986 ـ 1993)، أو الخلاف على تجارة الموز والذرة المعدلة جينيا، واللحوم المعالجة بالهرمونات، أو عندما اصطدمت أوروبا بقرارات أميركية تفرض حظرا على دول مثل إيران وكوبا وليبيا، ورؤيتها في تطبيق تشريعات أميركية بهذا الشأن على دول العالم بما في ذلك أوروبا.

وجاء إطلاق أوروبا عملة نقدية موحدة منافسة للدولار الأميركي والين الياباني كدليل يعزز فرضية الهوة الأميركية ـ الأوروبية. ولكن أوروبا «ليست دولة واحدة» إذ لا تتصف بوحدة المؤسسات وإلزامية القرارات أو مركزية الإدارة والرقابة، ولكن هي أيضا أكثر من أن تكون مجرد منظمة، فهي تجمع سكاني لنحو 370 مليون نسمة، وإجمالي الدخل القومي فيها أكبر من الولايات المتحدة بـ10% ومن اليابان بـ64%. ويحاول الأوروبيون إظهار المساهمات المالية التي يقدمونها لدول العالم وخاصة الدول الأفريقية، وفي نفس الوقت يشعرون بالانزعاج من عدم اعتراف الأمريكيين بذلك. ويؤمن الأوروبيون بأن الولايات المتحدة الأميركية تشعر بالقلق عندما تقوى شوكة الأوروبيين، لأن ذلك سيجعلهم يلتفتون إلى أمورهم المحلية التي تعود عليهم بالمنفعة، ويتخلون عن مساندة الولايات المتحدة الأميركية في المحافل الدولية، في نفس الوقت يبدي الأوروبيون قلقاً شديداً من تَعَوُّد الولايات المتحدة على معارضة القرارات والقوانين الدولية التي لا تتفق مع مصالحها.

* الموقف الياباني

* ولكن التنافس الدولي لا يقتصر على القوى الأوروبية والأميركية فقط; فهناك قوى اقتصادية صاعدة أهمها اليابان. وقد تطورت سياسات اليابان تماشياً مع الأوضاع الجديدة بعد انتهاء الحرب الباردة. فاليابان انحصر دورها في البداية على تقديم المساعدات إلا أنها مع أواخر الثمانينات أعلنت سياسة جديدة تقوم على محاور ثلاثة: المساعدات، والتبادل الثقافي، وحفظ السلام. وعملت اليابان على دعم التنمية في القارة الأفريقية واثارت انتباه المجتمع الدولي تجاه أفريقيا; وذلك بدعوتها لعقد مؤتمر طوكيو الدولي الأول لتنمية أفريقيا ـ المعروف باسم تيكاد ـ 1993 ثم عقد المؤتمر الثاني 1998. وبصفة عامة تركز اليابان في علاقتها مع أفريقيا على الجانب الاقتصادي مستخدمة في ذلك عدة أدوات أهمها المساعدات والاستثمارات والعلاقات التجارية. وتعد اليابان الدولة الأولى المانحة للمساعدات في أفريقيا منذ بداية التسعينات.

وحاليا تحاول اليابان أن تنأى بنفسها عن الخلافات الأميركية الأوروبية لكنها في الوقت ذاته تدعم أوروبا على استحياء بسبب خلافات ناشبة بينها وبين واشنطن بسبب التنافس على صناعة السيارات والقلق الأميركي المستمر من الغزو الياباني للأسواق الأميركية.

ويظن البعض أن اهتمام اليابان يقل عن اهتمام اميركا واوروبا بالشؤون الدولية، إلا أن الواقع يقول ان انخراط اليابان فى الشأن العالمي يأتي انطلاقًا من أن الاقتصاد اليابانd أكثر انفتاحا على الاقتصاد العالمي، وهو معنيٌّ أكثر من غيره بقضايا تحرير التجارة وإنعاش الاقتصاد وإخراجه من دوَّامة الكساد ومحاربة الفقر والامراض القاتلة. ولذلك يركز اليابانيون على ضرورة لعب دور جديد في صياغة قواعد العولمة، ومنها الحد من الفقر ومساعدة افريقيا على التصدي للمشاكل الاقتصادية التي تعانى منها. وإذا كان لقاء بلير مع بوش لم يسفر عن تحقيق ما كان يريده بلير، حيث تعهدت واشنطن بتقديم أقل من 700 مليون دولار للقضاء على المجاعة في أفريقيا بالمقارنة مع مبلغ 25 مليار دولار يأمل بلير فى الحصول عليها في قمة الثماني، فان الصراع بين الطرفين لم ينته عند هذا المطاف، فقضية القضاء على الفقر اصبحت ملحة اكثر من اي وقت مضى وهى تؤثر على الاقتصاديات العالمية مثلما تؤثر على الاستقرار الدولي.