مصر وأميركا والمعونة.. من المستفيد؟!

TT

تجدد الجدل في الولايات المتحدة الاميركية حول المعونة المقدمة لمصر في سياق المناقشات الجارية في وزارة الخارجية الأميركية والكونغرس من أجل التصديق على تخصيص مبلغ 10 مليارات دولار كمساعدات خارجية أميركية لمصر مثل إسرائيل وباكستان، واقتراح لجنة فرعية بالكونغرس تخفيض نحو 40 مليون دولار من المعونة العسكرية المقدمة لمصر واستبدالها بمساعدات اقتصادية يمكن ان تستخدم في دعم المجتمع المدنى او قطاع الاعمال الخاص من اجل دعم الديمقراطية في البلاد. فكيف تستفيد مصر من المعونات الاميركية؟ وهل استخدمت للضغط سياسيا على الحكومة المصرية من قبل؟! تحصل مصر حاليا من الولايات المتحدة على حوالي 1300 مليون دولار سنوياً كمساعدات عسكرية وحوالي 800 مليون دولار كمساعدات اقتصادية، وهذه هي المرة الثانية التي يناقض الكونغرس فيها اقتراح تحويل مساعدات عسكرية إلى اقتصادية. فالعام الماضي شهد أيضاً نفس مشروع القانون، ولكن الإدارة الأميركية نجحت في إجهاضه، وتردد أن وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس (كانت آنذاك مستشارة بوش للأمن القومى) قامت بالاتصال بعدد كبير من أعضاء الكونغرس لضمان معارضتهم للاقتراح على أساس أن مصر حليف هام في الحرب ضد الإرهاب وأن هذه المساعدات العسكرية ضرورية لها، وكانت نتيجة التصويت 287 صوتا موافقا مقابل 131 صوتا معارضا. ولكن تلك كانت المرة الأولى منذ 27 سنة التي يتم التصويت فيها على قانون بهذا الشكل (حتى ان رفض)، لذلك اعتبره البعض مؤشراً على تدهور العلاقات المصرية الأميركية. ورغم اعتراف السيناتور توم لانتوس بهزيمة الاقتراح الذي دافع عنه هو وآخرون، إلا أنه أكد نجاحهم في توجيه رسالة واضحة للنظام المصري. الجدل الأميركي حول المعونات التي تعطيها أميركا لمصر عادة ما يثير جدلاً معاكساً في مصر، ففي إطار الدفاع عن تخفيض المعونات لمصر أو إعادة توزيعها، يقوم بعض السياسيين الأميركيين بالتأكيد أن الحكومة المصرية لا تستحق هذه المعونات لأنها ليست متعاونة بما يكفي مع السياسة الأميركية في الشرق الأوسط او في قضية التحول الديمقراطي، وهو الأمر الذي يثير غضب الكثير من الأوساط في مصر. لكن حتى هذه اللحظة لم يتفاعل الإعلام المصري (كما هي عادته) مع ما يحدث في الولايات المتحدة، ويبدو أن القضايا الداخلية المصرية أصبحت هي الأكثر إلحاحاً، وهو الأمر الذي قد يكون طبيعياً باعتبار أن المساعدات التي تحصل عليها مصر من الولايات المتحدة في تناقص مستمر، سواء كقيمة مطلقة أو كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، اذ يذكر أن الولايات المتحدة ومصر قد اتفقتا منذ عام 2000 على تخفيض المعونة الاقتصادية لمصر بنسبة 5% سنوياً، بالإضافة إلى ذلك فإن النمو السكاني في مصر يقلل من آثار المعونات الأميركية باعتبار ان السكان المتزايدين يتقاسمون نفس الحجم من المعونة أو حجما أقل، وهذا الانخفاض في تأثير المعونات لا ينطبق فقط على المعونات المقدمة من اميركا، اذ انخفضت مساهمة مجموع المساعدات الخارجية المقدمة لمصر من حوالي 5% عام 1993 إلى أقل من 2% في العام الماضي. هل نحن اذا مقبلون على مرحلة جديدة تماماً من العلاقات المصرية الأميركية سيقل فيها دور المعونات بشكل جوهري؟ وهل تخلت الولايات المتحدة عن هذه الأداة التي لعبت دوراً هاماً في إدارة علاقتها بمصر حتى في ظل قيادة الرئيس المصري الاسبق جمال عبد الناصر؟ إحدى الأجوبة على ذلك هي التي يقدمها ياسر علوي، المحاضر في العلاقات الدولية بالجامعة الأميركية في القاهرة، فهو يرى أن المساعدات الأميركية لمصر تتناسب مع الدور الإقليمي الذي تلعبه الدولة المصرية. فإذا كانت مصر قد حصلت على المرتبة الثانية بعد إسرائيل من حيث حجم المساعدات الأميركية فذلك ليس صدفة ولكنه يرجع إلى محورية الدور المصري في المنطقة، وبما أن هذا الدور قد أصابه الوهن بسبب تناقص استقلاليته عن السياسة الأميركية، فإن حاجة الولايات المتحدة إليه تتراجع ومن ثم تقل المعونات الأميركية، هذه المعونات عمرها قصير إذن مهما طال أمدها وهي لابد أن تذهب على ما يعتقد ياسر علوي، غير ان الحقيقة هي أن ما يتغير في المعونات الأميركية لمصر ليس فقط حجمها ولكن طريقة توزيع عائدها في البلاد. ففي السبعينات والثمانينات كانت المساعدات تمر عبر قنوات الخزانة العامة المصرية قبل أن تصل عوائدها إلى الأفراد، أما الآن فالمعونة الأميركية تميل عوائدها إلى الذهاب مباشرة إلى القطاع الخاص، سواء لبعض رجال الأعمال أو لبعض منظمات المجتمع المدني، فبعد أن كان التركيز في السبعينات على تمويل البنية الأساسية في مصر والتي كانت تحصل على أكثر من 90% من المساعدات، تميل هذه المساعدات الآن إلى التركيز على القروض المقدمة لقطاع الأعمال الصغير والتي تبلغ اليوم أكثر من نصف المعونات، هذا في الوقت الذي تناقص فيه نصيب البنية التحتية إلى حوالي 10% بحسب بيانات هيئة المعونة الأميركية في القاهرة. والحقيقة أن الإدارة الأميركية والحكومة المصرية قد اتفقتا منذ عام 2000 على أن تنتقل العلاقات الأميركية المصرية الاقتصادية من مجال الدعم النقدي المباشر، إلى الدعم عن طريق فتح الأسواق الأميركية لصادرات شركات مصرية، وقد تم تسجيل ذلك في شعار يحمل نوعاً من السجع هو: from aid to trade أو «من المعونة إلى التجارة»، وهذا التحول تأكد منذ شهور عندما وقعت مصر اتفاقية «الكويز» مع الولايات المتحدة والتي بمقتضاها تحظى بعض صادرات الملابس المصرية بتسهيلات لدخول الأسواق الأميركية إذا كانت هذه الصادرات تحمل نسبة (حوالي 10%) من المكونات الإسرائيلية.

المعونة الأميركية المباشرة إذن تتراجع من دون أن يذرف الكثير من المحللين عليها الدموع، فالكثيرون، سواء من المصريين أو حتى الأميركيين، يتفقون على أن المعونة الأميركية لم تنجح في تنمية الاقتصاد المصري، وكما يقول الدكتور مصطفى كامل السيد استاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، فان المؤشر الأساسي لنجاح المعونة الأجنبية هو قدرتها على تنمية قدرات اقتصاد ما، وهو ما تحقق على سبيل المثال في المعونات التي قدمتها الولايات المتحدة الى عدد كبير من دول العالم، التي استفادت من المعونة بطريقة افضل من مصر بكثير مثل اندونيسيا وماليزيا وباكستان والفلبين، والعديد من دول اميركا الجنوبية. ولكن على الطرف الاخر يحاجج البعض بأن مصر لم تبد الكفاءة اللازمة للاستفادة من المعونات الاميركية، ويشير اخرون الى سجل حقوق الإنسان في مصر وسجل الحريات السياسية اجمالا اعاق تطوير المعونات او زيادتها، وعندما تدخل الصحافة الأميركية في الموضوع غالباً ما يشتد الضرب ويتحول النقد الموجه للنظام السياسي المصري، إلى نقد موجه للمجتمع المصري ككل باعتباره يعاني من مشكلة ضخمة في ثقافته السياسية. ويصل النقد أحيانا إلى الانتقال من نقد الثقافة السياسية إلى نقد الثقافة المصرية ككل. ويشير هؤلاء الى ان مصر بدلا من ان تتحول بمساعدة المعونات الاميركية الى «نموذج» للدولة الديمقراطية الرأسمالية التي تربطها علاقات سلام مع كل دول المنطقة بما في ذلك اسرائيل، كى «تصدر» هذا النموذج الى باقى بلدان المنطقة، فإنها تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية حقيقية تجعل مغزى المعونات الاميركية غير ذي صلة.

* محاضر في الاقتصاد السياسي بالجامعة الأميركية في مصر