أكراد سورية من «المكتومين» إلى «مواطنين»

هل يغير منح دمشق 225 ألف كردي الجنسية السورية طبيعة العلاقة بين الطرفين؟

TT

اوصى حزب البعث في سورية قبل ايام بمنح الجنسية السورية لنحو 225 الف كردي كانوا يعتبرون اجانب. كما اكد البعث «ضرورة حل مشكلة احصاء عام 1962 في محافظة الحسكة بشمال البلاد وتطوير المنطقة الشرقية وتنميتها»، وهي المنطقة التي تقيم غالبية اكراد سورية البالغ عددهم 1.5 مليون نسمة فيها. فلماذا قررت دمشق الإقدام على هذه الخطوة بعدما كانت تعتبر ان عشرات آلاف من الاكراد قادمون من دول مجاورة مثل العراق وتركيا ولا يحق لهم بالتالي الحصول على الجنسية؟. ومن هم اكراد سورية، وما هي خصائصهم الثقافية والاقتصادية واللغوية والتاريخية؟. بمعزل عن التوقعات، فإن توصية حزب البعث بحد ذاتها قد أحسنت بالاعتراف، ولو المتأخر، بمشكلة ظلت تؤرق هؤلاء الأكراد «المكتومين» منذ 1962، وأحسنت بالإقرار العلني أنه ليس من «سياسة واقعية» تتجاهل التنوع العرقي في البلاد. فبحسب المسؤولين في احزاب كردية سورية، فان هناك 225 الف كردي ممن لم يشملهم الاحصاء السكاني عام 1962، محرومون من الجنسية السورية، يضاف اليهم 75 الفا اخرين من المكتومين او «البدون». ومن نافلة القول، إن هؤلاء الأكراد يؤلفون مع آخرين غيرهم كتلة عرقية ذات إسقاط جغرافي واضح، بل ان مجرد الإشارة الضمنية إلى أماكن وجودهم يثير مشاكل حادة كما هو الحال بالنسبة للتقديرات المتعلقة بالمعطيات الديمغرافية الخاصة بهم. فعلى عكس الأقليات العرقية الأخرى (سريان، شركس، أرمن، آشوريين) يشكل الأكراد عدداً كبيراً نسبياً، ونسبة لا يمكن تجاهلها من الشعب السوري، وهم يعيشون في منطقة متواصلة واستراتيجية.

ووفقاً لتقديرات متفاوتة، يتراوح عدد الأكراد في سورية بين 1.5 مليون إلى مليونين نسمة، أي نسبة 9 بالمائة من إجمالي السكان، في حين تبلغ نسبتهم في تركيا نحو 24 بالمائة، وفي العراق نحو 22 بالمائة، وفي إيران 11 بالمائة. ويقطن أكراد سورية في المناطق الشمالية الشرقية السورية على طول الحدود السورية ـ التركية من شمال حلب حتى الحدود العراقية.

لكن أكراد سورية لا يمثلون وحدة اجتماعية متميزة، فالعديد منهم اندمج إلى حد كبير في النسيج الاجتماعي السوري منذ قرون عدة، وتبوأ مراكز الصدارة بين الأعيان كآل العظم والبرازي، ومنهم من حافظ على الهوية السكانية في منطقة الجزيرة، وأكثريتهم لجأت إلى سورية في العشرينات هرباً من الاضطهاد التركي، حيث لاقوا بعض التشجيع من سلطات الانتداب الفرنسية خصوصاً في تسهيل دخول العديد من أبنائهم في المؤسسة العسكرية الناشئة حديثاً. ولم يكن مستغرباً الدور الذي اضطلع به حسني الزعيم وفوزي سيلو وأديب الشيشكلي في الانقلابات العسكرية في سورية بعد الاستقلال، وهم كانوا جميعاً من أصول كردية، لكن هذا الدور تضاءل إلى حد كبير بعد سقوط الشيشكلي في عام 1954.

وبما أن المسألة الكردية في الأساس عرقية، لم يلق الأكراد بعد سقوط دور أبنائهم في الجيش معاملة مسالمة دائماً من قبل السلطات السورية المتعاقبة. ففي عهد الوحدة بين مصر وسورية لم يكن سهلاً على السلطات القبول بإنشاء «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، فلجأ العديد منهم للعمل تحت مظلة الحزب الشيوعي السوري الذي كان أمينه العام خالد بكداش نفسه كردياً.

واستمرت المعاملة نفسها بعد انهيار الوحدة، حيث شرعت السلطات بـ «تعريب» عدد من المناطق في الجزيرة ذات الوجود الكردي الكثيف، خوفاً من تحوله في المستقبل إلى كيان يتمتع ببعض الاستقلالية، على حد تعبير مسؤولي تلك المرحلة. وفي هذا السياق، كان مشروع الإحصاء السكاني الاستثنائي للعام 1962 أول إجراء تمييزي ضد أكراد هذه المناطق الذي حرم أكثر من 80 ألف كردي من الجنسية السورية في مناطق المالكية والقامشلي ورأس العين، وعددهم اليوم يقارب الـ 280 ألفا.

ومنذ ذلك اليوم، برزت في المجتمع السوري ظاهرة «المكتومين» أو الـ «بدون»، وهم الأشخاص المجردون من حق اكتساب الجنسية السورية، باعتبارهم «لاجئين» يحملون «بطاقة هوية حمراء» لتسهيل التنقل، ولكنهم فقدوا في المقابل حق المساواة أسوة بغيرهم من المواطنين السوريين في شؤون التجنس والتملك والتعليم والعمل والصحة.

وفي مطلع السبعينات، بدأت الدولة تشعر بأن في نفسها القوة الكافية لإحداث تغييرات ديمغرافية في المناطق ذات الكثافة الديمغرافية الكردية، فعمدت في إقامة ما أطلقت عليه «مشروع الحزام العربي» بهدف تفريغ الشريط الحدودي بين سورية وتركيا في محافظة الحسكة من سكانه الأكراد الأصليين واستبدالهم بتوطين أكثر من 4 آلاف أسرة عربية بهدف إقامة حاجز يمنع التواصل الجغرافي مع أبناء عرقهم الأكراد الآخرين خارج حدود البلاد.

ولم تتلكأ السلطات السورية آنذاك عن القيام بعدد من الخطوات لمنع الأكراد من إعادة تثبيت قدراتهم. ومن هذه السياسات محاولات واسعة لتوزيع الأكراد خارج منطقة الجزيرة، واستبدال الأسماء الكردية لمئات القرى والمواقع بأسماء عربية، وحرمان الأكراد من التحدث بلغتهم الخاصة وحظر تعليم اللغة الكردية في المدارس ومنع الموسيقى والأغاني الكردية.

لكن السطات السورية ربحت معركة ولم تربح الحرب. فبعد سنوات قليلة اتخذت دمشق منحى آخر باتجاه «تفهم» الموقف الكردي، وربما القبول ببعض النشاط ضد العراق وتركيا انطلاقاً من الأراضي السورية، من بينها، على سبيل المثال، حركة التطوع الواسعة لأكراد سورية للانضمام إلى صفوف قوات البيشمركة العراقية، إضافة إلى الوجود شبه العلني لحزب العمال الكردستاني على الساحة السورية.

وبما أن إعادة كتابة التاريخ المعاصر ليست الهدف هنا وإنما إطلالة لا بد منها على واقع المعضلة الكردية الراهن في سورية، فمن اللافت للنظر حقاً هو واقع الحراك الكردي الحالي الذي لا يمكن بأي حال عزله عن حراك التجمع الكردي في العراق، في ضوء التغيرات الحاصلة هناك، بما فيها من إذكاء للروح القومية الكردية.

وإذا ما أضفنا إلى هذا الزيت القومي الكردي الساخن نار حرمان نسبة لا يمكن تجاهلها من الأكراد السوريين من حقوق المواطنة، فإن النتيجة تجلت بوضوح في البدء بسلسلة من الاحتجاجات في أواخر يونيو (حزيران) 2003 أعقبتها بعد أقل من شهر تظاهرة الأكراد في حلب. أما أحداث القامشلي التي اندلعت في 12 مارس (آذار) 2004 فقد امتزجت فيها الهوية بالدم، حيث تحولت مباراة في كرة القدم قبل إطلاق صافرة البداية إلى ساحة معركة توسعت فيها الأحداث على أرض الملعب البلدي إلى محيطه، فأصبح اللاعب الكردي حاضراً أكثر من أي وقت مضى في المشهد السياسي السوري. وبالفعل، فإن ازدياد حضور اللاعب الكردي في المشهد السياسي السوري لم يكن يوماً على حساب الولاء للوطن ـ الأم، مشدداً باستمرار على أن مطلبه الأساسي يقتصر على نيل حقوق المواطنة الكاملة التي يتمتع بها باقي السوريين، لكنه في المقابل يطالب بالاعتراف بهويته القومية والثقافية، وهذا يتضمن بالضرورة الإفساح في المجال في تعليم اللغة الكردية وإنهاء سياسة المطالبة بشهادة «حسن سلوك في العروبة»، إضافة إلى التعاطي مع الملف الكردي بصورة معزولة عن هاجس الملف الأمني.

أما من الطرف الكردي السوري، فينبغي الاعتراف بأن هناك من الأصوات المغالية في التطرف التي تروج أفكارها عبر الإنترنت بإعلان الرغبة في الانفصال عن الوطن السوري ـ الأم، لكنها تظل الاستثناء الذي لا يمت للقاعدة بصلة، ذلك أن الحركة السياسية الكردية وهي اكثر من عشرة أحزاب تفرعت عن جذر واحد هو الحزب الديموقراطي الكردستاني، تتفق جميعها على شعارات تؤكد على الانتماء السوري وتدعو إلى تمتين أواصر العلاقات العربية ـ الكردية والحريات العامة والديمقراطية. لكن ما يشوب سياساتها ويتركها عرضة للأخذ والرد أنها بالغت في أحيان كثيرة في تقديم شعاراتها الخاصة المتعلقة برفع الظلم والاضطهاد القومي على حساب المطالب الديمقراطية العامة. وفي الضباب الذي يلف عادة عملية الانتقال بتوصية مؤتمر حزب البعث إلى أرض الواقع، فإن الجواب الوحيد المناسب هو القول إن التفاؤل هو الشعور الوحيد الممكن، ليس لاعتبارات واقعية، بل لأن الملف الكردي بحاجة ماسة إلى الحل، أياً تكن حظوظ هذا الحل بالنجاح.

* كاتب وأكاديمي عراقي مقيم في فيينا