مصنع العالم

هل تتحول عبارة «صنع فى الصين» إلى «صناعة صينية» لينطلق التنين الأحمر

TT

لعل عبارة «التنين النائم يستيقظ» افضل وصف لأوضاع الاقتصاد الصيني. فالصين، بسكانها البالغ عددهم 1.5 مليار نسمة، أي ربع سكان العالم، تتحول وبسرعة الى محرك للاقتصاد العالمي. ففي الوقت الذي تشعر فيه العديد من دول العالم بالقلق من العولمة، فإن الرئيس الصيني هو جيناو يعتبرها مدخلا للتنمية الاقتصادية، وقد شهد العقدان الماضيان تحول الصين حقا الى مصنع للعالم. لكن وفي الوقت الذي يهتم فيه العالم بتدفق منتجات تحمل عبارة «صنع في الصين» made in china على المحلات التجارية في جميع ارجاء الكرة الارضية، فإن الشركات الصينية تسعى حثيثا لخلق عبارة «صناعة صينية» made by china لتنتشر في العالم بأجمعه. ويأتي نجاح الصين الاقتصادي المبهر نتيجة تضافر عدة عوامل، على رأسها ثقافة العمل الصينية، والتخطيط الاقتصادي الحكومي. فقد تبنت الحكومة الصينية سياسة اساسية تعتمد على الانفتاح على العالم الخارجي واقامة المزيد من الاسواق المفتوحة والسماح للبلاد بالمشاركة اكثر في مشروعات اقتصادية دولية. وحددت الحكومة الصينية ما تريده من المستثمرين الاجانب فى مجالات الاعمال المختلفة، كما قدمت تنازلات لزيادة اهتمامات المستثمرين الدوليين كما اوضح تارون خانا الخبير في شؤون الاقتصاد الصيني. كذلك لا يمكن اغفال التأثير المشترك لاصلاحات السوق في الثمانينات وسياسة الطفل الواحد التي تمنع اي اسرة من انجاب اكثر من طفل، وتفرض عقوبات قانونية بالغة على العلائلات التى تخالف هذا القانون. وقد منح ذلك، بالاضافة الى السوق الهائل، للصين نفس المميزات التي كانت لدى الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وبالرغم من ان العديد في الغرب يصفون الاصلاحات الاقتصادية الصينية بأنها رأسمالية صريحة، فإن المسؤولين الصينيين يصرون على انها نوع من الاشتراكية بسبب دور الدولة فى التخطيط الاقتصادي المركزي. وقد ركزت الاصلاحات الاولى في اواخر السبعينات وأوائل الثمانينات على الانفتاح على العالم الخارجي، واعداد ما يطلق عليه نظام «المسؤولية التعاقدية» في قطاع الزراعة، بحيث يسمح للمزارعين ببيع الفائض في الاسواق العالمية، وتأسيس مشاريع ريفية مشتركة. بينما ركزت اصلاحات الثمانينات وأوائل التسعينات على اصدار نظام للتسعير وتقليل دور الدولة في توزيع الموارد الاقتصادية. بينما ركزت اصلاحات التسعينات على اغلاق الشركات غير الرابحة ومواجهة الافلاس في قطاع المصارف. وبعد بداية القرن الواحد والعشرين، ازداد التركيز على تقليل الفجوة بين الفقراء والأغنياء. كما استثمرت الصين في مشاريع البنية الاساسية.

وكان لهذا اثره الكبير على الطفرة الاقتصادية التى خطتها البلاد، فلقد كانت الصين حتى منتصف القرن التاسع عشر في بؤس تام، من حيث مستويات التعليم، والقدرات البشرية المؤهلة، والنمو الاقتصادي. وظلت على هذا الحال بشكل او بآخر خلال النصف الاول من القرن العشرين. وفي فترة قصيرة لا تزيد عن 26 سنة من 1989حتى 2004، ارتفع اجمالي الناتج الداخلي من 147.3 مليار دولار الى 1.6494 تريليون دولار بمعدل نمو يصل الى 9.4 في المائة. وزادت تجارتها الخارجية من 220.6 مليار الى 1.548 تريليون دولار، بمعدل زيادة سنوية تصل الى 16 في المائة. كما زاد احتياطي النقد الاجنبي من167مليون دولار الى 609.9 مليار دولار.

وطبقا للاحصائيات، فمن المتوقع أن تصل الاستثمارات الصينية في الخارج الى 4 مليارات سنويا في السنوات الخمس القادمة. وبحلول 2020 سيصل اجمالي الناتج الداخلي الى 4 تريليونات دولار سنويا بينما سيصل متوسط الناتج الداخلي الى 3 آلاف دولار. كما تهدف الحكومة الصينية الى دخول 50 شركة صينية في قائمة «فورتشين» لاكبر500 شركة في العالم بحلول 2010. وفي الوقت الراهن فإن معظم دول العالم لديها شركات تستثمر في الصين، وهناك 400 شركة من بين قائمة «فورتشين» لاكبر 500 شركة فى العالم تستثمر في الصين. كما يزيد عدد مراكز الابحاث والتنمية التي اقامها المستثمرون الاجانب في الصين الى 700 شركة وهي تعمل على تعزيز القدرات الصناعية الصينية، بقدرات معرفية وتكنولوجية من الممكن ان تؤدي فى المستقبل الى منافسة ساخنة مع اليابان والولايات المتحدة. وفي العام الماضي وصل حجم التجارة الخارجية للصين الى تريليون دولار. وهي نقطة تحول مهمة تجعل الصين من بين اللاعبين الاساسيين في الاقتصاد العالمي. وتمثل صادرات الصين في مجال التقنية المتقدمة 28 في المائة من اجمالي صادراتها في 2004. وربما في الخمسين سنة المقبلة، سيشهد العالم قوة عظمى واحدة، لن تكون الولايات المتحدة بل الصين. وستصبح اميركا ثاني او ثالث اكبر دولة في العالم، كما تنبأ طفيل احمد المحاضر في جامعة دلهي بالهند. وتجدر الاشارة الى ان تطورات الاقتصاد الصيني ستكون واحدة من القضايا الاساسية المطروحة في جدول اعمال مجموعة الثماني التي ستنعقد فى اسكوتلندا الشهر المقبل، كما من المرجح ان يبحث وزراء الدول الصناعية في العالم موضوع صادرات الصين المتزايدة في قطاع النسيج، التي ذكر عدد من الاقتصاديين انه تحولت «الى حرب تجارية ضارية» على نطاق صغير بين الصين والولايات المتحدة واوروبا. فالصين متهمة بتطبيق سياسات تجارية غير عادلة وفرض عدد من القيود على الشركات الاجنبية تمنعها من زيادة صادراتها للصين، كما تتهم الصين ايضا برفض السماح بإعادة تقييم سعر صرف عملتها بالمقارنة بالدولار، وبعدم السماح بوقف عمليات قرصنة اشرطة الموسيقى وبرامج الكومبيوتر. وفي الآونة الاخيرة اصاب الهلع الاوساط الاوروبية بسبب الاحذية الرياضية الصينية الرخيصة التي تدفقت على اسواقها اذ ان متوسط سعر الحذاء الجلدي المستورد من الصين وصل الى 2.4 يورو وهو اقل بنسبة 10 في المائة من العام الماضي واقل كثيرا فى سعره من المنتجات الاوروبية. وقد اشتكى المصنعون الاميركيون من ان الواردات الرخيصة القادمة من الصين هي السبب الرئيسي وراء الاضرار التي لم يسبق لها مثيل التي تعرض لها الاقتصاد الاميركي مؤخرا. وقد تلقوا دعما من السياسيين الاميركيين في الدعوة الى فرض رسوم اعلى على الواردات القادمة من الصين. وتتركز المخاوف الاميركية على ان الاقتصاد الاميركي يخسر وظائف في القطاع الصناعي تنقل الى الصين، كما يخسر وظائف في القطاع الخدماتي تنتقل للهند. ومن المتوقع ضياع 200 الف وظيفة سنوية في مجال تقنية المعلومات والخدمات في الشركات الاميركية.

غير ان نمو الاقتصاد الصيني لا يحمل كليا تأثيرات ايجابية، فقد حذرت دراسة جديدة من أن ازدهار اقتصاد الصين المذهل قد يفرض ضريبة شاقة على البيئة العالمية. فوفقا لتقرير «فايتال ساينز» 2005، وهو تقرير جديد أعده معهد «وورلدووتش» (المنظمة البيئية غير الحكومية التي تتخذ من واشنطن مقرا لها) فان الصين تهيمن على استهلاك وإنتاج كل شيء تقريبا مهددة باستنزاف موارد العالم.

وقالت ليزا ماستني مديرة مشروع الدراسة الجديدة ان «الصين تصبح القوة التي تأخذ المواد الخام من مختلف أنحاء العالم لأنها وحدها لا تمتلك الموارد التي تحتاجها لتعزيز نموها». وفي هذا الاطار حذرت من الاثار البعيدة الأمد التي سيمارسها الازدهار الصيني على المواد الخام في العالم المهددة بالنضوب. ايضا من الواضح ان موارد الصين الطبيعية، أي الهواء والأرض والماء، تواجه تحديات كبيرة. فالصين تشهد حاليا أكبر هجرة ريفية في التاريخ البشري حيث يغادر ملايين الناس من الريف باتجاه المدن المتكاثرة كالفطر، وذلك بسبب مضاعفة عدد المصانع. وفي هذه الاجواء يؤدي الصراع على المدن الى انهاك الارض، وزيادة التلوث الهوائي والمائي. ومن بين المدن الـ20 الأكثر تلوثا في العالم توجد 16 في الصين. وتعتبر البلاد ثاني اكبر مصدر لانبعاث ثاني أوكسيد الكربون بعد الولايات المتحدة. وقالت اليزابيث ايكونومي مديرة دراسات آسيا في مجلس العلاقات الخارجية الذي يتخذ من نيويورك مقرا له ان «ازدهار الصين الاقتصادي يغير على نحو دراماتيكي مشهدها البيئي، ملوثا الهواء ولاغيا ملكية الأرض ومقلصا الموارد الطبيعية للبلاد بمعدلات مرعبة». ولكن الخبراء يقولون ان هناك شيئا من الأمل بسبب ادراك حكومة بكين لحقيقة ان النتائج السلبية المتصاعدة للتلوث ستؤدي تباعا الى الاضرار بالتنمية ذاتها. وفي هذا الاطار طرحت الحكومة الصينية، على سبيل المثال، معايير صارمة في ما يتعلق بوقود السيارات الجديدة. كما سنت قانونا لتجديد الطاقة يحدد أهدافا طموحة لاستخدام الرياح والطاقة الشمسية. وبينما تنشر الشركات الصينية أجنحتها، فإنها ما تزال تصارع من أجل تطوير ماركاتها واعطائها سمعة دولية أفضل. فما يزال ينظر الى ماركة «صنع في الصين» من جانب أغلبية المستهلكين باعتبارها مرادفة للسلع الرخيصة ذات النوعية المتدنية ويبقى من الصعب بيعها بسعر أعلى.

ووفقا لما قاله آي فينج، مدير اللجنة الصينية لاستراتيجية الترويج، فان الشركات الصينية تعاني من نقص الخبرة في التسويق والادارة الدولية. ومع ذلك فانه بينما قد يتعين على الجيل الجديد من شركات التصدير ان تبذل جهودا متواصلة قبل أن تصبح شركات كبرى ناضجة، فان ضجيجها الحالي من القوة بما يكفي لعدم تجاهلها بسهولة. وقد برهنت على خطأ كل أولئك الذين يعتقدون ان الأنظمة الديمقراطية وحدها يمكن ان تزدهر. وان في حالات معينة وجود حكومة رشيدة، واصرار شعبي على النجاح يؤدي الى تجاوز كل المعوقات.

* كاتبة متعاونة مع «الشرق الأوسط»