حوارات الظلام

الأميركيون تفاوضوا سرا مع «الثوار» الفيتناميين و«الشيوعيين» الصينيين و«الملالي» الإيرانيين .. ومع المافيا والعصابات المنظمة

TT

اعترف دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الاميركي، قبل ايام بوجود مفاوضات سرية مع المتمردين العراقيين. وقالت مجلة «تايم» الاميركية ان اجتماعا عقد أخيرا داخل المنطقة الخضراء المحمية في بغداد بين «رجل في منتصف العمر عمل في حكومة صدام حسين، ورجل اخر مسؤول في حركة تمرد عراقية، واثنين من العسكريين الاميركيين». وقالت المجلة ان كل جانب قدم رأيه و«ضغط الاميركيان على العراقيين لكشف اسماء قادة متمردين آخرين، وقال العراقيان ان ايران تسيطر على الحكومة العراقية التي فيها اغلبية شيعية». وذكرت المجلة ان المفاوضات لم تدخل في تفاصيل، لكن «الجانبين عرفا ما وراء الكلمات المعنية»، وان مجرد عقد الاجتماع معناه استعداد العراقيين للتفاوض «لوقف نضالهما ضد الولايات المتحدة». وقال احد العراقيين للاميركيين، قبل ان يغادر المكان «نحن مستعدون للعمل معكم». ولم تكن هذه هي المرة الاولى التي تتدخل فيها الولايات المتحدة في مفاوضات «سرية ومن وراء الستار» مع ألد اعدائها عندما تشتد الازمات. فقد كتب جوزيف مكميلان، استاذ الاستراتيجية العسكرية في جامعة الدفاع الوطنية، التابعة لوزارة الدفاع (البنتاغون) في واشنطن قبل سنوات، تقريرا عن استراتيجية تفاوض العسكريين الاميركيين مع اعدائهم خلال الحروب. واشار الى ان الاساس النظري لهذه الاستراتيجية يعتمد على فلسفة كارل فون كلاوسفتس، الاستراتيجي الالماني قبل قرن ونصف قرن، الذي قال ان «الحرب استمرار للسياسة بطريقة اخرى» وان «دبلوماسية الحرب ليست بديلا للحرب، لكنها نوع من انواعها». وذكر مكميلان ان العلاقة بين الحرب والمفاوضات ليست مضادة «مثل العلاقة بين القلم والسيف، لكنها مكملة، مثل العلاقة بين المنجل والمطرقة». كما قال إن الاستراتيجية العسكرية الاميركية ترى محاسن في المفاوضات مع العدو. اولا، لأن العدو ربما سيريد وقف الحرب، اذا تأكد له ان الاستمرار فيها معناه هزيمته. ثانيا، لان العدو ربما سيقبل بوقف مؤقت للقتال لتجميع قواه، وزيادة امداداته. ثالثا، لأن الاميركيين سيرون ان مجرد قبول العدو التفاوض معناه احساسه بعدم قدرته على النصر الكامل. رابعا، لأن الاميركيين ربما سيقدرون على الحصول على معلومات عن العدو خلال المفاوضات. وهذه النقطة الاخيرة لمحت لها مجلة «تايم» في وصفها لاجتماع بغداد.

ونظرة الى التاريخ السياسي الاميركي المعاصر توضح ان التفاوض السري مع الجماعات المسلحة او جماعات شيوعية معادية، او منظمات اصولية، بل وحتى منظمات المافيا والجريمة المنظمة كانت جزءا ثابتا من السياسة الاميركية. فعلى سبيل المثال يتذكر العالم سلسلة المفاوضات السرية التى اجراها عسكريون اميركيون مع كوريا الشمالية ومع الصين خلال حرب كوريا (1950 ـ 1953)، التي انتهت بتقسيم كوريا الى شمالية وجنوبية. والمفاوضات التي اجراها الجنرال ماثيو ردغواي مع العسكريين الصينيين، «رغم انه كان ملتزما المبدأ العسكري الذي يؤكد ان العسكريين لا يتفاوضون للوصول الى اتفاق سياسي، ولكن للوصول الى اتفاق عسكري ينظم سير الحرب بينهما». وقال الجنرال ان العسكريين الاميركيين كانوا يأملون في خلق مشاكل بين الصين وكوريا الشمالية، ولهذا اجروا مفاوضات منفصلة مع كل منهما. وان بعض هذه المفاوضات اغضبت الكوريين الجنوبيين عندما عرفوا ان فيها تنازلات لخدمة استراتيجية اميركية عالمية.

وتكرر غضب الحلفاء من مثل هذه المفاوضات السرية بعد ذلك بعشرين سنة. فهذه المرة غضبت حكومة فيتنام الجنوبية، خلال حرب فيتنام (1962 ـ 1972) التي انتهت بانسحاب القوات الاميركية، وبانتصار ثوار فيتنام الجنوبية على الحكومة الموالية لاميركا، وبتوحيد فيتنام. واعلن رئيس فيتنام الجنوبية قبل فترة قصيرة من نهاية الحرب «الاميركيون باعونا»، وكان يشير للمفاوضات السرية الاميركية (التي تحولت الى علنية) مع ثوار «الفيت كونغ» المعارضين لحكومته، ومع حلفائهم في فيتنام الشمالية. لكن لي دوك ثو، رئيس وفد الثوار في المفاوضات، استغرب لأن رئيس فيتنام الجنوبية بدا وكأنه لم يتوقع ان يركز الاميركيون على مصالحهم هم (السلام بشرف) اكثر من مصالح الرئيس ثيو (الذي فر الى اميركا بعد سقوط حكومته). وقال رئيس وفد الثوار «من اول لحظة عرفنا فيها ان الاميركيين مستعدون للتفاوض معنا تأكد لنا انهم تنازلوا. لماذا؟ لماذا لم يتفاوضوا معنا قبل عشر سنوات عندما اشتركوا في الحرب ضدنا؟». لكن ظهرت مشكلة اساسية خلال المفاوضات السرية خلال حربي كوريا وفيتنام، وهي اصرار العسكريين الاميركيين على انهم لا يتفاوضون حول الموضوعات السياسية. واستغربوا لأن «الاعداء» في كوريا، وفي فيتنام، كانوا يرون الحرب جزءا من «حرب سياسية»، او «استمرارا للسياسة»، كما قال الاستراتيجي الالماني فون كلاوسفتس. واعتبر الكوريون والفيتناميون الحرب وسيلة لنشر عقيدة سياسية ذات جزءين: الاول، هدف وطني لتوحيد شطري كل بلد. الثاني، هدف فكري لنشر الشيوعية. وفي الحالتين كان انسحاب القوات الاجنبية (اميركية وغير اميركية) خطوة اولى نحو تحقيق ذلك. لكن العسكريين الاميركيين، في الجانب الآخر، اعتبروا الحرب عملية عسكرية لهزيمة عدو معين، والتزموا نظرية درسوها في كلياتهم وهي ان «العسكريين يتفاوضون كعسكريين»، واذا فشلت «الدبلوماسية العسكرية» يعودون الى «العمليات العسكرية».

ولهذا، خلال حرب كوريا، في 1952، غضب الجنرال مارك كلارك لأن فترة «ثلاثين يوما لإثبات حسن النية» مع كوريا الشمالية لم تثمر شيئا، واقترح على الرئيس هاري ترومان ضرب كوريا الشمالية من الجو لتقدم تنازلات.. لكن الضرب لم ينجح في تقديم التنازلات المطلوبة. وخلال حرب فيتنام، في 1972، غضب هنري كيسنجر، وزير خارجية الرئيس ريتشارد نيكسون، ورئيس وفد المفاوضات مع ثوار فيتنام في باريس، لأن الثوار «ماطلوا»، واقنع نيكسون بضرب فيتنام الشمالية من الجو. وخلال اسبوعين سقط على فيتنام الشمالية 40 ألف طن من القنابل (اضعاف قنبلة هيروشيما) لكن الضرب لم ينجح في تقديم التنازلات المطلوبة. ولم تتحول مفاوضات كيسنجر مع ثوار فيتنام (وحكومة فيتنام الشمالية) الى علنية الا بعد سنتين، وكانت بدأت في 1969، وزار كيسنجر باريس 13 مرة سرا لهذا الهدف. ولعب الفرنسيون دورا رئيسيا في ترتيب المفاوضات السرية (كانت القوات الفرنسية قد انهزمت في فيتنام قبل ذلك بخمس عشرة سنة، وانسحبت). وكشفت، في بداية هذا الشهر، وثائق اميركية وبولندية اوضحت ان الرئيس جون كنيدي خطط لاجراء مفاوضات سرية مع فيتنام الشمالية قبل مفاوضات كيسنجر السرية بسبع سنوات. في 1962، ارسل كنيدي فرقة من المستشارين العسكريين لتدريب قوات حكومة فيتنام الجنوبية الموالية لأميركا. ويبدو انه احس ان المشكلة اكثر تعقيدا من تدريب قوات فيتنامية، وان التدريب سيقود الى تدخل عسكري اميركي متزايد. ولهذا طلب من جون غالبريث، سفير اميركا في الهند، وصديق العائلة، وفيلسوف زوجته جاكلين كنيدي المفضل، الاتصال مع الهنود لترتيب اتصالات سرية مع فيتنام الشمالية. لكن كنيدي اغتيل بعد ذلك بشهور. وربما اذا نجحت الاتصالات السرية، وتوصل الجانبان الى اتفاقية، كان العالم سيتحاشى حربا قتلت مليوني فيتنامي وستين الف اميركي. ومثلما سهلت فرنسا مفاوضات نيكسون السرية، ومثلما كانت الهند ستسهل مفاوضات كنيدي السرية، سهلت باكستان مفاوضات نيكسون السرية لاقامة علاقات مع الصين، والتي كانت اميركا قد رفضت الاعتراف بها لأكثر من عشرين سنة بعد الثورة التي قادها ماو تسي تونغ. ففي 1971 سافر كيسنجر الى باكستان في زيارة رسمية، وغادرت طائرته مطار العاصمة روالبندي، ثم اختفى عن الانظار، لكنها كانت قد ذهبت الى الصين، وتبعتها زيارات سرية اخرى، حتى السنة التالية عندما زار نيكسون الصين، واعلن فتح صفحة جديدة في علاقات البلدين.

ومن ناحيتها، ركزت لجنة التحقيق في فضيحة «ايران غيت» (فضيحة بيع اسلحة اميركية الى ايران سرا عن طريق اسرائيل) التي ترأسها السناتور جون تاور، على المفاوضات السرية بين ادارة الرئيس ريغان وحكومة آيه الله الخميني في ايران (مثل الزيارة السرية التي قام بها روبرت ماكفرلين، مساعد مستشار ريغان للأمن القومي، والكولونيل اوليفر نورث، والكعكة التي حملاها معهما في الطائرة هدية من ريغان الى «المعتدلين» في ايران). لكن التقرير اشار الى مفاوضات سرية جرت قبل ذلك، وبدأت مباشرة بعد ان اصبح ريغان رئيسا 1980، وبعد اطلاق سراح الدبلوماسيين الاميركيين في السفارة الاميركية في طهران، في اول يوم له في البيت الابيض.

وكان الهدف من هذه المفاوضات وقف اي اتصال بين الحكومة الاميركية وبين منظمة «مجاهدي خلق» في واشنطن، والتي كانت تعارض الثورة التي قادها آية الله الخميني. (وزعت المنظمة نفسها وثائق في وقت لاحق اكدت ذلك).

واشارت وثائق المنظمة الى مفاوضات اميركية سرية اخرى، خلال ادارة الرئيس كارتر، وقبل سقوط شاه ايران. هذه كانت مع مساعدي آية الله الخميني، بعد ان تأكد كارتر بأن نظام الشاه سيسقط، ولهذا حاول كارتر الحصول على تاكيدات من ملالي ايران بأن الشيوعيين واليساريين لن يستولوا على الحكم بعد الشاه. كما شرح صحافيان فرنسيان، في كتاب «حقيقة ممنوعة: دبلوماسية البترول السرية بين اميركا وايران»، تفاصيل مفاوضات سرية بين اميركا وحكومة طالبان حتى قبل شهر من هجوم 11 سبتمبر. وقالا ان الحكومة الاميركية كانت تتعرض لضغوط من شركات البترول الاميركية لاقناع طالبان بمد انابيب بترول الى المحيط الهندي، عبر افغانستان. وان كلا من الرئيس كلينتون والرئيس بوش (الابن) وافق على هذه الاتصالات السرية، رغم نقدهما العلني لطالبان. وفي بداية سنة 2001 زار اميركا وفد من طالبان، وزار مصافي بترول، وآبار بترول في خليج المكسيك، وظهر في الصحف والتلفزيون الاميركي. لكن ما لم يكن معروفا في ذلك الوقت ان الزيارة جاءت بعد مفاوضات سرية استمرت اكثر من سنة. وذكر الكتاب ان ادارة بوش انذرت حكومة طالبان سرا، عن طريق حكومة باكستان، بانها ستتعرض لقصف اميركي جوي اذا ماطلت في موضوع انابيب البترول (لا بسبب دورها في العمليات الارهابية)، وكان ذلك قبل شهور قليلة من هجوم 11 سبتمبر.