قصة ديون الفقراء

ستُعفى بنين من ديونها البالغة 1.8 مليار دولار فيما لن تستفيد نيجيريا من الإعفاء بالرغم من أن ديونها 34.9 مليار.. فلماذا؟

TT

موضوع الغاء ديون الدول الاكثر مديونية في العالم وتقديم مساعدات تنموية لها هو القضية الاساسية على طاولة مباحثات قادة مجموعة الثماني الكبار المقررة الاربعاء المقبل في اسكتلندا. ومع ان الدول الاكثر فقرا ومديونية، واغلبها دول أفريقيا جنوب الصحراء حصلت بالفعل على وعد بإلغاء ديونها المستحقة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبنك التنمية الأفريقي والتي تبلغ حوالي 40 مليار دولار، الا ان قضية الفقر والمديونية ستظل على رأس الاجندة الدولية خلال الاعوام المقبلة. فوزراء مالية مجموعة الثمانية خلال اجتماعهم الشهر الماضي اشترطوا لالغاء ديون الدول الفقيرة وتقديم مساعدات تنموية عدة شروط تجعل الغاء الديون ومنح مساعدات ابعد ما يكون عن كونه اتوماتيكيا. ومن هذا الشروط أن تلتزم الحكومات الافريقية بمكافحة الفساد، وأن تشجع نمو القطاع الخاص، وتزيل المعوقات أمام الاستثمارات الخاصة المحلية منها والأجنبية. ولان قمة الثماني ستحدد بتفاصيل شروط الغاء الديون عن اكثر البلدان فقرا او مديونية، تتوجه اليها انظار العالم الآن فـ«الشيطان يكمن في التفاصيل» كما يقولون. وهنا سنستعرض الشروط الغربية لالغاء الديون وكيف تراكمت الديون على الدول النامية خلال العقدين الماضيين. ترجع مشكلة ديون العالم الثالث إلى الثمانينات، وبالتحديد 1982، حينما أعلنت المكسيك توقفها عن سداد ديونها الخارجية، مما أثار ذعراً لدى المؤسسات المالية والمصرفية في الدول الكبرى، خوفاً من أن يشجع الموقف المكسيكي دولا لاتينية أخرى على التمرد أمام التزاماتها المالية الخارجية. وكانت معظم القروض اللاتينية مستحقة لمؤسسات مالية ومصرفية خاصة، ولهذا فإن توقف تدفقات أقساط وفوائد الديون المستحقة لهذه المصارف كان سيهدد مراكزها المالية بالانهيار. ومن هنا هرعت حكومات الدول الكبرى للتوصل إلى حلول وسط بين دول أميركا اللاتينية والمصارف الكبرى، قبلت بمقتضاه الدول اللاتينية الالتزام بسداد الديون في مقابل إلغاء جزء منها وإعادة جدولة جزء آخر. وبتطبيق الدول اللاتينية لبرامج التكيف الهيكلي التي خفضت من الإنفاق العام وزادت من إيرادات الدولة انفرجت الأزمة وزال الخوف من انهيار النظام المصرفي الدولي.

وبعد اميركا اللاتينية جاء الدور في افريقيا، فحجم المديونية الأفريقية (175 مليار دولار)، أقل بكثير من حجم المديونية اللاتينية (792 مليار دولار)، وبالتالي فإن تداعياتها الضارة على النظام المصرفي الدولي ليس في قوة مديونية الدول النامية الأخرى. بالإضافة لذلك فإن المديونية الأفريقية في معظمها مستحقة لدول، بخلاف المديونية اللاتينية التي تستحق معظمها لبنوك خاصة كبرى (ميزانيات الدول تستطيع تحمل خسائر أكثر من ميزانيات البنوك الخاصة، التي تلتزم بالحفاظ على حقوق المودعين). علاوة على ذلك فإن الدول، بخلاف المؤسسات الخاصة، لديها دافع الضرائب، بإمكانها إن ارادت ان تغرف من جيوبه (إلى حد ما) إذا ما احتاجت لذلك. كل هذا أدى إلى ضعف الإلحاح على حل مشكلة الديون الأفريقية لدى الدول الكبرى، بالرغم من الضغوط التي قامت بها هناك منظمات إنسانية ودينية وتيارات سياسية (خاصة الخضر واليسار). وكانت تلك الضغوط تستند على بعض الدراسات التي أكدت أن خدمة اعباء الديون الأفريقية يحرم تلك الدول من الموارد اللازمة لتطوير بنيتها التحتية والإنفاق على الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة. وكانت الديون الافريقية قد بدأت فى التراكم عندما تكالبت الحكومات الوطنية الافريقية على الاستدانة من الخارج بهدف تمويل مشروعات تنموية، غير ان نسبة إهدار كبيرة أصابت القروض التي حصلت عليها الدول الأفريقية، والجدال الحقيقي يدور حول تحديد النسب التي أنفقت فعلاً في مجالات تنموية، وتلك التي نهبتها بيروقراطيات ونظم الدول الأفريقية الفاسدة. ولكن بعض الدراسات تشير إلى أن جزءاً من المعونات والقروض تم إهداره بمقتضى اتفاقيات القروض ذاتها، التي تفرض على الدول النامية إنفاق جزء من القروض كأجور ومكافآت لخبراء أجانب. هذا بالإضافة إلى إلزام هذه الدول بشراء سلع الدول المقرضة والتي غالباً ما لا يكون سعرها هو الأفضل في السوق العالمي. ودائماً ما يثير موضوع الاشتراطات المفروضة على الدول الفقيرة لكي تحصل على معونات أو قروض او تخفف ديونها، جدلاً سياسياً وأخلاقياً في الدول الصناعية الكبرى. فعلى سبيل المثال قال جورج منبيوت في مقاله بصحيفة «الغارديان» البريطانية 15 يونيو (حزيران) الماضي انه على الرغم من نبل هدف مكافحة الفساد، الا ان المشكلة هي أن سجل الدول الصناعية في مساعدة الدول الأفريقية يكشف عن أنها قدمت مساعدات لدول أفريقية متهمة بأعلى معدلات للفساد في العالم، بينما لم توقع الدول الصناعية الكبرى حتى الآن على ميثاق مكافحة الفساد الذي اقترحته الأمم المتحدة. وهو يفسر ذلك بأن بعض شركات الدول الكبرى متورطة تماماً في إفساد السياسيين الأفارقة بمنحهم رشاوى من أجل تسهيل أعمالها. باختصار، مكافحة الفساد في أفريقيا شيء مطلوب، لكن البعض ينفي أن تكون الدول الكبرى هي المؤهلة بالقيام بذلك. أما بالنسبة للاشتراطات الخاصة بإزالة العوائق أمام الاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية، فالبعض يفسرها بأنها مدفوعة بمصالح الشركات الكبرى التي تريد الوجود والعمل في الدول الأفريقية. وهذا يحيل بالطبع لإشكالية الاستثمارات الأجنبية التي يتشكك البعض في مدى جدواها للدول الفقيرة. ولكن بعيداً عن الاعتراضات على مبدأ الاستثمار الأجنبي في حد ذاته فإن مراقبة التزام الدول الأفريقية بتشجيع الاستثمارات سيقوم به صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهي مؤسسات لا تحظى بالثقة في الدول النامية. فالبعض يتهمها بأنها تمثل أساساً مصالح الدول الكبرى التي تسيطر على مجالس إدارتها، والبعض الآخر يتهمها بأنها مؤسسات محكومة بأيديولوجية السوق الحر التي تؤمن بلا تحفظات بقدرة آليات السوق على تحقيق التنمية الاقتصادية، بغض النظر عن المعاناة التي يمكن ان يتكبدها الفقراء والطبقات الوسطى من جراء سياسات السوق الحر على المدى القريب والمتوسط. ومن بين اكثر الدول فقراً ومديونية، هناك 14 دولة فقط ستنطبق عليها مبادرة مجموعة الثماني. ويلاحظ ان بعض هذه الدول ليست الأكثر مديونية في افريقيا او العالم. فهناك معايير أخرى تدخل في الاختيار. فبينما ستعفى دولة بنين من ديونها التي بلغت 1.8 مليار دولار عام 2003، لن تستفيد نيجيريا من الإعفاء، بالرغم من أن ديونها وصلت إلى 34.9 مليار دولار 2003، وهي تعد أكبر دولة مدينة في أفريقيا، وتأتي بعدها مصر بمبلغ 31 مليار دولار. لقد استبعدت دول كثيرة منها الدول العربية الأفريقية من المبادرة. فهل المعيار هو حجم الديون بالنسبة لعدد السكان؟ الاجابة: لا. فلم تحصل سيشيل مثلا على إعفاء من الديون بالرغم من أن نصيب مواطنها من الديون يبلغ 6551 دولاراً بالمقارنة برواندا التي تقرر إعفاؤها بالرغم من أن نصيب مواطنها من الديون لا يتعدى 170 دولاراً. من الواضح اذا أن المسألة تخضع لمدى تقدير الدول الكبرى لحاجة الدول الأفريقية للإعفاء، وقدرة هذا الاعفاء على مساعدة الاقتصاديات النامية. هذا بالطبع بالإضافة إلى اعتبارات سياسية أخرجت من المعفين كل الدول التي تدهورت علاقتها بالدول الكبرى مثل زيمبابوي بسبب التوترات بين نظام روبرت موجابي والغرب، السودان بسبب ازمة دارفور. لماذا إذن قررت الدول الكبرى أخيراً التحرك من أجل حل أزمة المديونية في أفريقيا؟ هناك أولا سرعة انتشار مرض الإيدز الذي أصاب أكثر من نصف السكان في بعض الدول الأفريقية، وهو المرض الذي تحتاج مكافحته لموارد كثيرة لا تتوفر بالفعل لدي الدول الأفريقية. اذ الإصرار على أن تلتزم الدول الأفريقية الأكثر فقرا بتسديد ديونها هو بمثابة حكم بالإعدام على مواطنين أفارقة، وهو الأمر الذي أصبح يثقل ضمير الكثير من المثقفين والفنانين في الدول الكبرى مما يدفعهم لمطاردة السياسيين كي يتحركوا.

* محاضر فى الاقتصاد السياسى في الجامعة الاميركية بالقاهرة