عودة فيها خطر على الحياة.. وبقاء فيه عذاب

عدد اللاجئين انخفض عام 2004 بنحو 9.2 مليون شخص.. فهل الدول المستقبلة أقسى من البلدان الأم؟

TT

وقف الكثير من الناس في بعض بلدان العالم المترف بالرخاء والنماء والعيش الكريم، امام «يوم اللاجىء» الذي احيته الامم المتحدة منذ ايام بقصد تحسيس العالم بقضية عنوانها «مأساة اللاجئين». وكان الكثير من هؤلاء يتساءل عن معنى هذا «اليوم» وهل هناك مأساة بهذا الحجم، كما صورته الامم المتحدة، ومختلف التقارير الانسانية؟. لكن ما ان تصدرت حكايات هؤلاء الضائعين الكثير من العناوين الاخبارية حتى فهم المتسائلون انها فعلا معضلة كبيرة، واستشاط منها العديد غضبا وحنقا، وقرعوا حولها اجراس الخطر لما لها من تبعات انسانية مأساوية. ولعل بداية الحديث عن هذه القضية تكمن في الصيحة الكبرى التي اطلقها هذا الاسبوع المسؤول الاول عن ملف شؤون اللاجئين في العالم المفوض السامي لمفوضية اللاجئين انطونيو غوتيريس، بعد ان رأى ان المساعدة باتت واجبة وملحة وسريعة، لرفع الغبن المتعاظم عن هؤلاء المشردين في اجزاء كثيرة من هذا العالم. فلم يجد المفوض السامي الجديد للاجئين سوى البداية من تحديد مفهوم «اللاجىء»، ووضع قضيته «العادلة» في اطارها الصحيح.

فهو يقول «عاملوا اللاجئين على انهم ضحايا للحروب والاضطرابات، ورحبوا بهم على نطاق واسع»، قبل ان يتابع كلامه بكثير من الدقة والوضوح «طالبو اللجوء، واللاجئون ليسوا ارهابيين. انهم هم ضحايا الارهاب ويجب اعتبارهم كذلك». وهو يقف في مؤتمره الصحافى الاول في مقر الامم المتحدة التي زارها للمرة الاولى هذا الاسبوع، رافع غوتيريس بكل ما يملك من بعد انساني عن هذه القضية المعقدة، ففي لحظة من شحذ الهمم العالية، يقول الرجل ان جانبا كبيرا من مهمته هو العمل على استعادة الروح المعنوية ورفع الغشاوة عن الضمير الانساني، بعد أن فشل سلفه في ذلك رود لوبرز، الذي رحل وفي حلقه غصة عقب اتهامات له بالتحرش الجنسي، تاركا بذلك ملفا مثقلا بالقيود والمعاناة والنظرة الخاطئة التي تولدت من رحم المأساة اعطت اللاجىء صفة غير لائقة به، وظلت تطارده بالازدراء تارة، وبالكراهية والحقد تارة اخرى.

وبدا واضحا ان المفوض السامي الجديد قد ادرك جيدا تلك الملابسات، فهو يقول «ان اللاجئين لا يغادرون بلدانهم بهدف تحسين وضعهم الاقتصادي كما يعتقد البعض، انهم ببساطة يفرون من الموت، من الحروب الاهلية، ومن انتهاكات حقوق الانسان التي يتعرضون لها، فإذن افتحوا الحدود امامهم، انها قضية انسانية بكل ابعادها». ومع ان النبرة الحادة التي تحدث بها غوتيريس عن تفاقم هذه الازمة على الصعيد الاجتماعي العالمي، الا انه بدا فرحا للتحسن الذي شهده ملف اللاجئين، اذ اشار هنا الى ان تعداد اللاجئين في العالم قد انخفض بنسبة 4 في المائة، اي الى نحو 9.2 مليون شخص في 2004، وهو أدنى رقم منذ عام 1980. ولكن العامل الاهم كما تراه وكالة غوث اللاجئين يتمثل في الصعاب والحواجز التي صارت تطبق بصرامة مفرطة ضد طالبي اللجوء، وهو الامر الذي دفع باعداد من البشر الى عدم الخوض في مغامرة غير محسوبة العواقب. من ذلك طبقت كثير من الدول، بينها استراليا والولايات المتحدة وكندا عملية فحص صارمة لطالبي اللجوء. بينما تناقش اوروبا الغربية وهي الجهة المفضلة للاجئين قواعد أكثر صرامة، لانه بمجرد الاعتراف بطالبي اللجوء في احدى الدول الاوروبية، يصبح لهم الحق التام في الانتقال الى أي دولة اخرى في الاتحاد الاوروبي.

وبسبب تلك الاجراءات اصبح اللاجىء يمر بظروف اعنف من تلك التي دفعته الى اللجوء اساسا. فقد أكد تقرير لوكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة وجود انخفاض في عدد طالبي اللجوء في أوروبا وأميركا الشمالية بشكل عام بسبب هذه المخاوف المتنامية، وربما بشكل اقل بسبب ازالة بعض الانظمة التي كانت سببا في تهجير الناس، كنظامي العراق وأفغانستان. وتقول دوائر الهجرة واللجوء في بعض الدول الاوروبية ان هناك ضغوطا داخلية قوية، شعبية وسياسية، في البلاد المستقبلة للاجئين، زادت من حدة الضغوط على الحكومات الغربية لكبح جماح مسالة اللجوء. فبروز ظاهرة اليمين المتطرف في العديد من الدول الغربية الذي بنى سياسته على غلق باب الهجرة، وكره الاجانب بصفة عامة، والمطالبة بطرد «الغرباء»، دفعت معظم الحكومات الغربية، يمينية، او يسارية، الى ان تشدد في إجراءات الرقابة على حدودها بشكل صارم غير مسبوق. وأدت هذه السياسة الجديدة لاحقا الى انخفاض كبير في اعداد طالبي اللجوء بخاصة في بريطانيا، التي احتلت المرتبة الاولى في التصدى لهذه المسالة، فكثير من مدنها باتت لا تطيق رؤية هؤلاء اللاجئين بجانبهم. هذا الامر اللافت دفع وكالات غوث اللاجئين في بريطانيا الى توجيه نقد للحكومة، لأنها وضعت لنفسها هدفا لتقليل طلبات اللجوء بمقدار النصف، من دون مراعاة الجانب الانساني للقضية.

وتقول الوكالات إن اللاجئين الحقيقيين الذين يستطيعون إثبات أنهم يهربون من الاضطهاد يجب ألا يعتبروا تهديدا على المجتمعات التي يعيشون بها. لكن موضوع اللجوء في كثير من دول أوروبا ارتبط بمسألة أخرى حساسة سياسيا، وهي تزايد عدد المهاجرين من دول بعيدة، وثقافات مختلفة. لذلك فإن قضية اللاجئين اخذت منحى جديدا تتداخل مع سياسات مكافحة الهجرة غير الشرعية والمشاكل الاجتماعية الاخرى الناجمة عن كل هذه المواضيع. وقد تسبب هذا في عملية إعادة تفكير عميقة في السياسات الحكومية والمواقف الشعبية في مختلف الدول الغربية. وهنا ارتفعت الكثير من الاصوات المنصفة مطالبة قبل كل شيء بتمييز واضح بين اللاجئين السياسيين والمهاجرين لأسباب اقتصادية. وتقول ان واجب الحكومات بمنح اللجوء السياسي لمستحقيه حسب ميثاق جنيف لا يزال قائما. لكن المضايقات والإجراءات الجديدة الصارمة المطبقة على اللاجىء حدت بحسب المفوضية العامة لشؤون اللاجئين الى انخفاض طلبات اللجوء في أوروبا وأميركا الشمالية واليابان بنسبة 16% خلال الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام، مقارنة بالأشهر الثلاثة السابقة لها. وتحذر وكالة غوث اللاجئين باستمرار من أن أرواح اللاجئين ستتعرض للخطر إذا صادقت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على سن قوانين جديدة صارمة لتنظيم حق اللجوء. وتلفت الانتباه من أن مقترحات أخرى قد تؤدي إلى ترحيل طالبي اللجوء إلى دول ربما كانوا قد عبروا أراضيها خلال رحلتهم من دون أن يخطر ببالهم أن حياتهم في خطر. كما أن طالبي اللجوء الذين رفضت طلباتهم قد يواجهون احتمال الترحيل قبل أن تنظر محاكم الاستئناف في طلباتهم. ومع كل هذه المخاوف يعقد وزراء الداخلية والعدل في دول الاتحاد الأوروبي اجتماعات دورية في محاولة للتوصل إلى اتفاق لوضع معايير جديدة وصارمة حول سبل طلب اللجوء في دولهم، وهى بالتأكيد لا تكون سياسة في صالح اللاجئين. وتتهم منظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الانسان «هيومن رايتس واتش» والمجلس الأوروبي للاجئين والمنفيين بلدان الاتحاد الأوروبي بتجاهل توصيات الخبراء الدوليين في هذا المجال. هؤلاء الخبراء يعتقدون انه ومع تراجع دعم سياسة دمقرطة الانظمة في العالم، فان توقعات كثيرة تفيد ان قضية اللاجئين ستبقى في صدارة المعضلات الاجتماعية لعقود اخرى غير محدودة الزمن. ويشير المراقبون الى ان اعداد اللاجئين من العالم العربي لوحده قد بلغ 19 مليونا ومائتي الف لاجىء. اعداد كبيرة من هذا الرقم تعيش منتقلة بين بلدان مجاورة، فيما اعداد اخرى تقدر بالملايين انتقلت الى العديد من البلدان الاوروبية واميركا تحديدا. وهؤلاء يعيشون بميزانية سنوية للمفوضية السامية للاجئين تبلغ حوالي مليار دولار، يديرها 6 الاف موظف موزعين في 115 دولة.

ومهما يكن من امر فان اللاجىء الذى كانت تحميه القوانين الدولية ذات الطابع الانساني، لم يعد يجد في هذا الخيار طريقا نحو الاستقرار والامن والسلام، وبالتالي ادرك ان السبل قد تقطعت به، فلا هو قادر على التعايش مع الاذلال الذي فر منه اصلا، ولاهو قادر على العودة من حيث اتى، ومن حيث لا تزال الصورة ذاتها قابعة في ذاكرتة المتعبة.