أنتونيو غوتيريس.. اللاجئ الأكبر

الرئيس الجديد للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين .. والقضية الأكثر نبلا

TT

«عمّني شعور بالفخر والتواضع لاختياري موضعا لثقة الأمين العام ولثقتكم، وسأبذل كل ما في وسعي لكسب دعمكم المتواصل. بإمكانكم الاعتماد على التزامي التام بهذه المنظمة وبقضيتها الانسانية». بهذه العبارات اختتم رئيس الحكومة البرتغالية السابق أنتونيو غوتيريس الخطاب الذي ألقاه أمام اللجنة التنفيذية، أثناء الاجتماع الذي عقدته في 17 يونيو (حزيران) الماضي، بمناسبة تسلّمه منصب مفوّض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين. وكان لتعبير «التزامي التام بهذه المنظمة وبقضيتها الانسانية» تأثير على الحاضرين، فغوتيريس الذي تولى مهامه رسميا هذا الاسبوع، أشار في مناسبات عديدة الى انه لا ينظر الى موضوع اللاجئين من منظور «الامن العالمى» و«الحدود السياسية» و«مصالح الدول الغنية»، بل ينظر اليه باعتباره قضية انسانية لانها تتعامل مع ارقام من البشر المعذبين، موضحا ان الاصل فى قضية اللاجئين هو الشعور بخوف الفارين ومعاناتهم والامهم، فلا احد يهرب من بلده من دون داع. وُلِدَ أنتونيو مانويل دي أوليبيرا غوتيريس في 30 أبريل (نيسان) 1949 في لشبونة، لعائلة يعيلها أب موظّف في شركة الغاز والكهرباء. وترعرع في العاصمة البرتغالية وظهرت مهاراته ومؤهلاته في سن مبكرة، قادته في 1965 إلى الفوز بجائزة أفضل طالب ثانوي في البرتغال. بعد إنهاء دراسته الثانوية 1966، التحق بالمعهد الفني العالي ليتخرّج منه بعد خمس سنوات حائزا شهادة مهندس فيزيائي ـ الكتروني بدرجة ممتازة، ثم أكمل دراسته عام 1972 بدورة في علم الاقتصاد. وأثناء التحرّر من الديكتاتورية السالاثارية (نسبة إلى أنتونيو دي أوليفييرا سالاثار، الذي حكم البرتغال في الفترة الممتدة بين عامي 1932 و1968)، شارك غوتيريس الشاب، ايام حكومة مارسيللو كايتانو بين عامي 1968 و1974، في نشاطات مختلفة في صفوف بعض المجموعات الناشطة في المجالات السياسية والاجتماعية والدينية، حيث برز كأحد أهم الناشطين في التنظيمات الاجتماعية المختصة في خدمة المواطنين. ويبدو ان قناعاته الاشتراكية الانسانية هى مفتاح شخصيته، فسواء فى عمله السياسي او في الخدمة العامة، انطلق هذا السياسى البرتغالي من ارضية الافكار المثالية وحقوق الانسان والعدالة والمساواة. وفي 25 أبريل (نيسان) 1974، وعلى اثر نهوض «ثورة القرنفل» الشهيرة، انتسب أنتونيو غوتيريس إلى الحزب الاشتراكي الذي أسسه ماريو سواريس في 17 أبريل 1973، ليشارك في لجنته الوطنية منسقا لنشاطات الحزب في منطقة لشبونة، وينتقل بعدها في 1976 إلى منصب المسؤول الاول عن حملات الانتخابات التشريعية حيث ظهرت قدرته في مجال الادارة والتنظيم. ولاحقا انتُخب نائبا في البرلمان البرتغالي عام 1976، عندما كان عمره 27 سنة. غير ان غوتيريس غاب عن المسرح السياسي عدة سنوات انصرف خلالها إلى مهام تنظيمية داخل الحزب كعضو بارز في الامانة الوطنية، ثم عاد وظهر مستعيدا دوره من جديد رئيسا للكتلة البرلمانية الاشتراكية. وفي 23 فبراير (شباط) 1992، وبعد أشهر قليلة من قيامه بتأسيس المجلس البرتغالي لشؤون اللاجئين، انتُخب أمينا عاما للحزب الاشتراكي البرتغالي أثناء المؤتمر الوطني العاشر للحزب ليحل محل خورخي سامبايو المستقيل. وفى هذا الوقت كانت السياسات الاوروبية في ما يتعلق بمسائل الهجرة متشددة على ارضية حماية الاراضى الاوروبية من المهاجرين، خاصة هؤلاء الذين يأتون من بلدان المغرب العربي وافريقيا القريبة من اوروبا، خاصة اسبانيا والبرتغال. كما كانت الاحزاب اليمينية الصاعدة فى هذا الوقت تستغل موضوع اللاجئين لزيادة اصوات المؤيدين لها من الطبقات المحرومة او تلك التي تخاف على فرص عملها ان تزايدت اعداد المهاجرين واللاجئين. ومن هنا كان ما طرحه غوتيريس حول اللاجئين «كقضية انسانية يجب فيها ان ينظر الى مصالح اللاجئين قبل النظر فى مصالح البلدان الغنية»، جد مغاير عن الخطاب السائد. وفي 1 أكتوبر (تشرين الاول) 1995، فاز الحزب الاشتراكي بالانتخابات التشريعية على منافسه الحزب الاجتماعي الديمقراطي، الذي حكم البرتغال منذ 1985، حاصدا 112 مقعدا ونسبة 44% من مجموع الاصوات، أعلى نسبة حصل عليها الحزب الاشتراكي في تاريخه، باقيا على عتبة الاغلبية المطلقة. وعلى أثر هذا الفوز قام غوتيريس بتشكيل حكومة اشتراكية تسلّمت مهامها في 25 أكتوبر من السنة نفسها.

وبعد اشهر قليلة من تسلّمه رئاسة الحكومة وقّع على حلف مع النقابات وأصحاب الشركات لتخفيض ساعتين من ساعات العمل الاسبوعية ورفع الحد الادنى للأجور، ثم بدأ بتنفيذ خطة اقتصادية ارتكزت على الصرامة المالية والنقدية، وهدفت الى رفع الانتاج وزيادة الثروة الوطنية لدعم الخطوات السارية من أجل الانضمام إلى منطقة اليورو. غير انه تابع سياسة الخصخصة التي بدأها رئيس الحكومة السابق كافاكو سيلبا، باعتبارها ضرورية لتخفيض الدين العام وتصحيح العجز القائم في الميزانية من دون التنازل عن الإنجازات الاجتماعية التي تهدف إلى تحسين الاوضاع الحياتية للمواطنين، وتلك الهادفة إلى الحد من البطالة. في أول يناير (كانون الثاني) 1999، ونتيجة لسياسة اقتصادية صارمة ومرنة في نفس الوقت استطاعت البرتغال الدخول إلى منطقة اليورو.

وقد قاد غوتيريس الحزب الاشتراكي إلى فوزين متتاليين في 1999، الاول في 13 يونيو (حزيران)، في انتخابات البرلمان الاوروبي، حين حصل على نسبة 43.1% من الاصوات، والثاني في 10 أكتوبر في الانتخابات العامة حين جدد فوزه بنسبة 44% على الحزب الاجتماعي الديمقراطي. وهكذا قام أنتونيو غوتيريس بتشكيل حكومة جديدة.

على الصعيد الدولي، ذاع صيت أنتونيو غوتيريس نتيجة للنشاطات الدولية التي قام بتنظيمها وقيادتها منذ توليه رئاسة الحكومة البرتغالية. أولّها كان اجتماع القمة الذي عقده في لشبونة فى يوليو (تموز) 1996 مع المستعمرات البرتغالية السابقة، الذي أسّس خلاله «مجموعة الدول الناطقة باللغة البرتغالية». ايضا وأثناء الاجتماع العادي للمجلس الاوروبي الذي عقد في البرتغال في مدينة سانتا ماريا دي فييرا 2000، الذي ترأسه غوتيريس، تم تأسيس قوة أمن أوروبية مهمتها حفظ السلام في النزاعات الاقليمية. كذلك وبصفته رئيسا دوريا للاتحاد الاوروبي طالب بحزم بتطبيق أشد العقوبات على النمسا بعد تشكيل الحكومة النمساوية في شهر فبراير (شباط) عام 2000، بمشاركة حزب اليمين المتطرف الذي يتزعمه يورغ هايدر.

وخلال ازمة تيمور الشرقية فى اندونيسيا، لعب دورا مهما في المفاوضات الثلاثية مع الامم المتحدة والحكومة الاندونيسية، أدت إلى إحلال السلام في المستعمرة البرتغالية القديمة بعد ارسال قوات عسكرية دولية شاركت فيها البرتغال بأكثر من ألف جندي، كما أدت إلى انسحاب الجيش الاندونيسي الذي كان قد اجتاحها في 1976. وفي 1999 أشرف شخصيا على انتقال سيادة ماكاو، آخر المستعمرات البرتغالية إلى الصين. وهكذا انتهت حوالي 450 سنة من امتداد الامبراطورية الاستعمارية البرتغالية في القارة الآسيوية. وبسبب هذه السيرة الحافلة فى دعم الاقاليم الصغيرة، التي كانت واقعة تحت احتلال قوى اكبر، انتخب غوتيريس في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 1999 رئيسا للاشتراكية الدولية أثناء مؤتمرها الواحد والعشرين الذي عقد في باريس، بعد أن كان نائبا لرئيسها منذ 1993.

وفي 16 ديسمبر (كانون الاول) 2001، تلقّى الحزب الاشتراكي البرتغالي ضربة قوية في الانتخابات البلدية، إذ خسر عددا كبيرا من مدن البرتغال الرئيسية من بينها لشبونة العاصمة وبورتو وكويمبرا. على أثر هذه الضربة التي لم تكن في الحسبان، وبالرغم من الاغلبية شبه المطلقة التي كان قد حصدها في الانتخابات الاخيرة، قام غوتيريس في عشية ذلك اليوم بالذات بتقديم استقالته فاتحا الباب أمام «استعادة الثقة الضرورية بين الشعب والحكومة». وهكذا أفسح المجال أمام رئيس البرتغال للدعوة إلى انتخابات عامة. وبعد ذلك انسحب من الواجهة السياسية وتخلى عن مقعده في البرلمان البرتغالي. غير انه ظل مشغولا بالشأن العام، اضافة الى اهتماماته الادبية، اذ ُنشر له كتاب واحد عام 1999 بعنوان «البرتغال في البال» (Pensar em Portugal).

اما مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي سيتولى أنتونيو غوتيريس مسؤولية إدارتها أثناء السنوات الخمس المقبلة، فهي أهم منظمة إنسانية دولية، يعمل فيها أكثر من 6 آلاف موظّف موزعين على حوالي 120 دولة، وتؤمن الحماية والمساعدة لأكثر من 17 مليون لاجئ ومحتاج، تخطت ميزانيتها الحالية لعام 2005 مبلغ 1000 مليون دولار.

وعندما وصل غوتيريس إلى مكتبه في المفوضية ليتسلم منصبه الجديد توجه إلى الموظفين قائلا: «جئت مفعما بالقناعة والتواضع والحماس. القناعة لإيماني الشديد بقيَم هذه المنظمة التي سأعمل من أجلها ومن أجل أن تسود هذه القيَم في كل بقاع العالم. والتواضع لأن أمامي الكثير لأتعلمه ويقع اتكالي عليكم في هذه المهمة. والحماس لأنه ليس بإمكاني اختيار قضية أكثر نبلا للمدافعة عنها والكفاح من أجلها».