«الفيدرالية» و«مصدر التشريع» في العراق.. وأماكن أخرى

الفيدرالية كما دلت التجارب السابقة لم تكن تنظر إلى المواطنين بريبة ولم تكن بحاجة إلى استخدامهم ككبش محرقة

TT

انتهت الشائعات المستشرية في بغداد إذن حول تعديلات مرتقبة على مسودة الدستور العراقي بعد إقرار الجمعية الوطنية لها، وبقيت القضايا الأكثر إثارة للجدل، على كثرة التوقعات المعاكسة، في صلب المسودة ريثما يتضح في الأفق غير عنصر تعديل وتبدل. وفي الضباب الذي يلف عادة المشهد السياسي العراقي بين اللاعبين الثلاثة الرئيسيين في الساحة يغيب الأساس خصوصاً عندما ينظر اللاعبون هؤلاء إلى نقاط الاشتباك السياسي بين مؤيد أو رافض وكأن المطالبة بقطعة أكبر من «الكعكة» لصالح هذه الفئة دون أخرى هي الهدف الأسمى للخطوات الأولى لعملية تأسيس الدولة العراقية الجديدة.

لكن اللعبة السياسية الداخلية أوصلت هؤلاء جميعاً إلى مأزق محدد، هو مأزق المادتين 3 و 113 من مسودة الدستور الجديد. فالجدل السياسي العنيف الذي شهدته الساحة العراقية تمحور حول نص المادة الثالثة من مسودة الدستور التي تشير إلى أن «العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو جزء من العالم الإسلامي، والشعب العربي فيه جزء من الأمة العربية». وإذا كان هناك غموض متعمد في صياغة هذه المادة، فإن المادة 113 تقف، وبحق، خارج لعبة الغموض هذه، حيث نصت على أن «النظام الاتحادي في جمهورية العراق يتكون من عاصمة وأقاليم ومحافظات لا مركزية وإدارات محلية». من هنا كان الانزلاق الطبيعي من المناقشة الدستورية الهادئة إلى الجدل السياسي العنيف، ذلك أن المطالبة بانتماء العراق بقومياته المتعددة إلى محيطه العربي تثير تحفظاً مشروعاً عند فئات من العراقيين، لأن ذلك بالطبع يخفي أهدافاً أخرى، وفي الأساس، كما يقول هؤلاء لأنه يلغي الحق الطبيعي بالتعبير عن الذات السياسية، كل وفقاً لإرادته، كما أن اختزال الشخصية السياسية العراقية إلى عنصرها الثقافي العروبي فحسب، هو في رأيهم نوع من تغليب الكل على الجزء. من هنا المأزق بالذات، تغليب العنصر العروبي على الجزء القومي الخاص من جهة، ونفي غير مبرر لحق التشبث بالهوية القومية الخاصة من جهة أخرى. في موازاة ذلك كله، هناك أزمة الهوية القومية التي جرى التحايل بشأنها ردحاً من الزمن، إذ لم تستطع الدولة العراقية، على الرغم من جبروتها العاتي، أن تنقل ولاء المجتمع من انتماءاته التقليدية إلى شكل مؤسسي عام، أي من مرحلة «التجاور» بين الهويات (الإثنية والدينية والطائفية، إلخ) إلى مرحلة «التكامل». ففي حالات غير قليلة نرى أن «هوية» الدولة القومية جرى فرضها بأدوات تقليدية. وعلى سبيل المثال، حمل التشبّث الرسمي بالهوية العروبية أن استبعد مشاركة غير العرب من «مواطني» الدولة، وهي حال دفعت بالأكراد إلى التمرد وتزايد النزعات الانفصالية لديهم.

والحال، أن يرتضي عرب العراق الانتماء العروبي ليس بوصفه قيداً، بل كونه بعداً ثقافياً لهم. ولكن في مقابل هذا الاعتراف هناك من العراقيين من يشعر بأنه ليس بحاجة لأي كان أن يعطيه دروساً حول المضمون الذي يريده لانتمائه العربي، بل لا أحد، في الحقيقة، يمتلك هذا الاحتكار. لكن الصراع الحاد داخل الفرقاء السياسيين العراقيين يتمحور أكثر فأكثر على النظام الفيدرالي المزمع قيامه في العراق، باعتباره من أشد القضايا إثارة للجدل، خصوصاً بين المفهوم المناطقي ـ الإداري للنظام الفيدرالي من جهة، وبين المفهوم القومي والمذهبي من جهة أخرى.

يعتقد بعض العراقيين أن التماهي البدائي والساذج بين وجود الدولة المركزية وبين الولاء السياسي المصاحب له انتهى إلى غير رجعة على الأرجح، وقد ساهمت في اتساع هذه الفجوة عوامل عدة في غاية الأهمية، من بينها أن هذه الدولة لم ترق يوماً إلى مستوى الدولة القومية التي هي نسق تنظيم عقلاني قائم على وجود المؤسسات ويجسّد السلطة السياسية ضمن مجموعة بشرية تعيش على أرض محددة، بل على العكس من ذلك تماماً، فقد نشأ نوع من التماهي المتزايد بين أرض معينة وولاء سياسي معين، وبالتالي بين كيان سياسي معين وبين فئة معينة تحكمه. وعليه بات الاجتماع السياسي خاضعاً للظروف التاريخية أكثر مما هو متأصل في الثقافة السياسية المكوّنة لمفاهيم الأرض والوطن والتاريخ.

وإذا كان الأمر كذلك، كيف يتم إقناع «مواطني» الدولة العراقية الجديدة بنظرة مغايرة ؟

يكتسب التاريخ السياسي المقارن بين التجربة الأوروبية ونظيرتها العراقية أهمية كبرى في هذا السياق. ففي الأولى تبلورت الهويات في قوميات متميزة، ثم في دول قومية متميزة، بل إن مفهوم الأمة بات مرادفاً لمفهوم الدولة ذات الرقعة الجغرافية المحددة. أكثر من ذلك، تجاوبت خريطة القارة السياسية مع خصائص شعوبها التاريخية والثقافية ضمن التنوع في وحدة الحضارة الأوروبية، وبالتالي أصبح حق السيادة السياسية لمجموعات ثقافية متمايزة، تاريخياً، هو «حق طبيعي» غير مشروط بعوامل القوة والضعف والحجم. من هنا، قام نموذج «الدولة القومية» على الوحدة السياسية، حيث ينتمي المواطنون طواعية إلى ثقافة مشتركة، ويؤكدون إرادة العيش المشترك في إطار جماعة مستقلة ذاتياً.

لقد تخلّت القارة الأوروبية عن نموذج «الدولة المركزية» التي تفرض سيطرتها بالقوة على جماعات مختلفة اللغة والثقافة، وانحسرت مطامع دولها القومية، بعد الحرب العالمية الثانية، في إطار حدودها التقليدية، مما سمح بإعادة تنظيم خريطة القوى على أساس حق الشعوب في تقرير مصيرها وتمتعها بالسيادة الكاملة على أراضيها. وقد استتبع ذلك أن أوروبا تبنّت نموذجين للدولة العصرية: أولهما، نموذج الدولة القومية التي تجسّد أماني الشعب في العيش الحر، وثانيهما الدولة الفيدرالية التي توفق بين التجمعات التقليدية المختلفة والمتمايزة، في إطار نظام لا مركزي «يستبعد» ضغوط «الدولة المركزية» ويوازن عملية التنمية بين التجمعات ضمن حدود سياسية معترف بها. وبذلك قام النظام الجديد في القارة الأوروبية ليركّز العلاقات الدولية على مبدأ احترام السيادة الإقليمية وتبادل المصالح بين الشعوب. وهذه الفكرة حملت معها تطوراً جذرياً في الوظيفة السياسية للدولة : فبدلاً من أن تكون الدولة أداة توسّع وتسلّط وقمع على الآخرين، تحولت إلى خدمة المجتمع المدني كأفضل وسيلة لحل مشاكله المستجدة وتخطيط عملية التنمية والتقدم من أجل مستقبل أفضل لأفراده.

هذه المعادلة الحيّة من شأنها أن تعيد طرح وظيفة «الدولة العصرية» إزاء مواطنيها على بساط البحث من جديد، ذلك أن الفيدرالية، كما دلت التجارب السابقة، لم تكن تنظر إلى المواطنين من خلال نظرة ريبة، ولم تكن بحاجة إلى استخدامهم ككبش محرقة، وكانت قادرة بالتالي على حمايتهم من التعرض للقتل على الهوية ومن المجازر الجماعية.

من هنا، ربما تعددت الأسباب التي دفعت بجلّ الصف العربي السنّي الوقوف بوجه بعض فقرات مسودة الدستور المقترح. أول هذه الأسباب وأهمها إن إقرار مبدأ الفيدرالية يعني من الناحية الفعلية نهاية رسمية للتماهي الضمني بين العرب السنّة والدولة العراقية وللشعور الدفين بأن للعرب السنّة أرجحية تاريخية في مجال قيام الكيان العراقي واستقلاله وتثبيت دعائمه، وإن أي عقد اجتماعي جديد يعني أيضاً أن العرب السنّة أصبحوا طائفة عراقية بين الطوائف بلا تمييز، لا لدورهم التاريخي ولا لحاجتهم لضمانات تجنبهم تقلبات المستقبل. إلا أن من الخطأ بمكان اعتبار تصلب العرب السنّة موقفاً نهائياً، فهذا التصلب ما هو إلا تأقلم مرحلي مع استمرار الاشتباك السياسي بين الأطراف العراقية المختلفة.

وبما أن السلطات المركزية المتعاقبة في بغداد لم تستطع النهوض بعبء مهام بناء الدولة العصرية، وهي لم تكن جديرة بها أصلاً، فان البعض يعتقد بأن اختفاء رائحة الموت من العراق مشروط اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بالدعوة الصريحة إلى إقامة نظام فيدرالي جديد يعيد رسم حدود الكيانات السياسية المتعارف عليها بما يكفل إعادة الخريطة إلى محتواها الواقعي البشري والجغرافي كي تسمح بالاندماج الوطني الحقيقي والتعبير عن الآراء بحرية تامة وفتح الإمكانية الحقيقية لاستبدال فئة حاكمة بأخرى بوسائل سلمية، وتطيح باستمرارية كان ثمنها، حتى الآن، لا يستقر إلا بفتح مواسير الدم.

* كاتب وأكاديمي عراقي مقيم في فيينا