ميليس: مطرقة التحقيق

المناور الشرس بطل «لابيل» و«ميزون» متهم بعلاقاته مع أجهزة الاستخبارات الغربية

TT

* لم يكن عبثا أن يعلن كوفي أنان، الامين العام للأمم المتحدة، عن اختيار ديتليف ميليس، القاضي ورئيس المحققين الألمان في محكمة جزاء برلين، للتحقيق في مقتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. فالرجل، 55 سنة، يتمتع بخبرة 25 سنة من التحقيقات في قضايا الإرهاب الدولي والاغتيالات السياسية والتفجيرات والجريمة المنظمة. هذا يعني أنه بدأ خبرته في المحكمة الجزائية بعد سنوات قليلة من تخرجه، اذ قضى 10 سنوات في التحقيق في قضايا شهيرة مثل قضية تفجير المركز الثقافي الفرنسي «ميزون» فى برلين، و 10 سنوات أخرى في التحقيق في ملابسات عملية تفجير ملاهي «لا بيل».

وعرف عن ميليس خبرته الطويلة في التعامل مع قضايا الإرهاب التي تتعلق بنشاط دول وحكومات تتعامل بهذا الشكل أو ذاك مع الإرهاب. ويبدو أنه كسب سمعته الكبيرة، التي بلغت مسامع كوفي أنان، من خلال مواقفه المتشددة ضد الدول المتهمة بالإرهاب خلال تلك المحاكم. وعلى هذا الاساس فقد وجه ميليس الاتهام المباشر للدولة الليبية، وأورد اسم الزعيم الليبي معمر القذافي بالاسم، في مرافعته الشهيرة في قضية «لابيل» أمام محكمة برلين. وإذا كانت المحكمة قد دانت أجهزة المخابرات الليبية بتخطيط وتنفيذ عملية «لابيل»، التي راح ضحيتها ثلاثة قتلى ونحو 200 جريح، ولم تدن الدولة الليبية نفسها بالإرهاب، فان ذلك لم يتعلق بميليس كمدع عام وإنما بموقف القاضي.

قال ميليس في مرافعته أمام قاضي محكمة «لا بيل» يوم 3 اكتوبر (تشرين الاول) 2001 «جلست سورية مرتين، وإيران مرة ( يقصد محكمة ميكونوس ) في قفص الاتهام مع المتهمين ولم تتردد المحكمة في إدانة هذه الدول... وحينما تدور القضية حول الإرهاب على مستوى الدول، فعلى المحكمة أن تحكم بالعدل كي لا تخل بواجبها عن طريق التذرع بعدم الرغبة بالحاق الضرر بالسياسة الألمانية أو بالعلاقات الاقتصادية الألمانية».

وطبيعي فان النائب العام ميليس، في حديثه عن جلوس سورية في قفص الاتهام، كان يقصد محاكمات الألماني يوهانيس، الساعد الأيمن للإرهابي ايليش سانتشيز «كارلوس»، بتهمة تفجير المركز الثقافي «ميزون» ببرلين عام 1983 وتفجير القنصلية الفرنسية ببرلين في نفس العام. ونجح ميليس في اثبات التهمة على فاينريش عام 1996 حيث حكمت محكمة برلين عليه بالسجن المؤبد. واتهم ميليس فاينريش بنقل 24 كغم من المتفجرات من رومانيا إلى ألمانيا الشرقية في مايو 1982، ومن ثم خزنها في السفارة السورية ببرلين الشرقية بعلم كامل من أمن الدولة الشرقية « شتازي ». وقال ميليس أن نبيل شريطة، الدبلوماسي السابق في السفارة السورية، عاد وسلم المتفجرات إلى فاينريش صبيحة يوم الاعتداء في 25 أغسطس 1983. وحسب معطيات ميليس، المستمدة من ملفات «شتازي»، فإن عميلا سوريا آخر قدم من دمشق وتولى زرع القنبلة في الطابق الرابع من مبنى المركز الثقافي. علما أن فاينريش تم اعتقاله في اليمن عام 1994 وتم تسليمه إلى السلطات الألمانية عام 1995.

ومن الواضح أن الأمم المتحدة تعول على ميليس في قيادة تحقيق لا يرحم في قضية اغتيال الحريري، وإن أدت الأمور إلى جلوس سورية للمرة الثالثة في قفص الاتهام أمام محكمة لبنانية أو دولية. وبما أن أصابع الاتهام قد وجهت إلى الأجهزة السورية من البداية، يبدو أن ميليس سيكون الرجل الفصل في موضوع اتهام الدولة السورية، أو أحد أجهزتها، بالجريمة، خصوصا، أن الدولة الألمانية، التي تعتبر محايدة إلى حد ما مع سورية قياسا بموقف الولايات المتحدة وفرنسا، قد أعلنت عن دعمها الكامل لمسار التحقيق الذي يجريه ميليس إلى جانب 40 دولة أخرى عبرت عن استعدادها لتقديم العون لفريق التحقيق المؤلف من 50 محققا دوليا.

وعرف عن ميليس عمله الدقيق ومساعيه «السرية» للتوصل إلى المعلومات أثناء التحقيق. وهو ما عبر عنه في اليوم الأول من اختياره للتحقيق في قضية الحريري، حينما قال «سأبقي بعض التفاصيل تحت البطانية»، ليفاجئ بها المتهمين والمحققين على حد سواء. وأضاف «علينا أولا معرفة الحقائق ثم نختار استراتيجيتنا في التعامل مع القضية... أظهرت خبرتي إما أن ينجح المرء خلال ثلاثة أشهر أو أن تستمر القضية عشر سنوات... وأنوي الانتهاء من التحقيق في ثلاثة أشهر». وهي اشارة إلى تكليفه بالتحقيق لمدة 3 أشهر، تمدد مرة واحدة لفترة ثلاثة اشهر أخرى، ويجري بعدها غلق ملف القضية. وعن القضايا السابقة التي اشتهر فيها، أكد ميليس أن «المرحلة الأولى من التحقيق هي الأهم في القضية». وقال: أذكر قضيتين، الأولى هي قضية تفجير المركز الثقافي الفرنسي ببرلين، واستغرق التحقيق فيها 10 سنوات، وقضية لابيل التي دام فيها التحقيق 10 سنوات أخرى. المهم هي المرحلة الأولى من التحقيق.

ويبدو للمتتبع لنشاط ميليس القضائي ان نجاحه الكبير يتمثل في الحكم المؤبد على ثلاثة فلسطينيين وامرأة ألمانية بالسجن المؤبد عام 2001 بتهمة تنفيذ عملية «لابيل» 1986. واتضح من م جرى التحقيق والافادات التي دامت 15 سنة ( 1986ـ2001) أن موظفي السفارة الليبية في برلين الشرقية، ساهموا بشكل مباشر في تخطيط العملية ونقل المتفجرات من ألمانيا الشرقية إلى برلين الغربية باستخدام السيارات الدبلوماسية. ولكن أي دور لعبه ميليس في الكشف عن هذه التفاصيل؟

من المعروف أن النيابة العامة ببرلين ظلت تتخبط لسنوات طويلة وعجزت عن ايجاد الأدلة التي تدين المتهمين رغم القاء القبض عليهم. ولم يكسب ميليس سمعته إلا بضربة حظ مفادها سقوط جمهورية ألمانيا الديمقراطية (1989) ووقوع أسرار وزارة أمن الدولة في برلين الشرقية «شتازي» بيد السلطات الألمانية الغربية. ولولا هذه الوثائق لما استطاعت محكمة «لابيل» تسليط الضوء على الدور الليبي في القضية ولا الحصول على الأدلة التي تدين المتهمين. يمكننا القول إذن انه لولا شتازي لما انتهت سلسلة محاكم «لابيل» حتى الآن. هذا ليس تقليلا من شأن المحقق وخبرته لكنها حقائق لا يمكن سترها «بالبطانية»، وتظهر أن سر نجاح ميليس في «لابيل»، لم يكن في تحقيق «المرحلة الأولى من التحقيق»، وإنما في المرحلة الأخيرة منه.

وكانت صحيفة «يونغة فيلت» اليسارية قد اتهمت ميليس بعد يوم واحد من تكليفه قضية الحريري، باتباع أساليب ملتوية في التحقيق. وقالت الصحيفة أن ميليس، في قضية «لابيل» استخدم علاقاته المتشعبة بمختلف أجهزة المخابرات، وانه تجاوز القوانين في المرحلة الأولى من التحقيق حينما استخدم شاهد اثبات (لم تذكر الصحيفة اسمه) متهما بتفجيرات أخرى، ومتهما بالقتل العمد، لاثبات التهم على متهمي «لابيل». وتقول «يونغة فيلت» أن ميليس وعد الشاهد المذكور بتخفيف الحكم عليه مقابل شهادة اثبات ضد المتهمين، وهذا إجراء لا يجيزه القانون الألماني في حالة المتهمين بالقتل العمد.