النكتة السياسية في العالم العربي: السباحة عكس التيار

تتعدد أسبابها فيختلط فيها ما هو سياسي بما هو اقتصادي واجتماعي

TT

* أمة تطعن حاكمها سرا وتمجده جهرا لا تستحق الحياة.

جمال الدين الأفغاني 1833 ـ 1879 إذا كنت من الباحثين عما يعين من تقديم يقترب من التأصيل للنكتة السياسية في العالم العربي، فالتقدير أن أفضل معين على فهم مثل ذلك التأصيل لا بد أن يمر بشخصيتي عبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني، كونهما إصلاحيين سبحا عكس التيار السياسي، فكان أن لقيا مصرعهما مسمومين بدس السم لهما في الطعام، في حين أنهما حاولا فقط أن ينبها الى مخاطر الاستبداد السياسي على الشعوب، ولم يفعلا كما فعلت الشعوب بعدهما بالترويح عن ضغوط ذلك الاستبداد باللجوء الى النكتة السياسية.

أما إذا كنت من الراغبين في عملية تأصيل للنكتة السياسية لدى الشعوب عامة، فلك أن تقرر بداية أنها تقترب من كونها حاجة اجتماعية وسياسية تبدو ملازمة لإنسان العصر بصورة أكبر مما هي عليه مع القدامى، ولك أن تستدعي معها هنا أيضا منظومة من الأسباب النفسية والاجتماعية والاقتصادية، مثلما عليك ألا تغفل حتى منظومة العوامل البيئية، لأن شعوب المناطق الحارة مثلا تحتفظ بخصائص تختلف عن صفائهم في المجتمعات المعتدلة أو الباردة، والى ذلك خلص مؤسس فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع فيلسوف العرب عبد الرحمن بن خلدون (1332 ـ 1406)، مثلما لمح اليها شاعر الإنجليز والمسرحي المعروف وليام شكسبير (1564 ـ 1616) في بعض أعماله، وأيضا الشاعر الفلسطيني محمود درويش في تقمصه لشخصية الشاعر المتنبي في مشاكله مع الحاكم كافور الإخشيدي ورحيله عن مصر قائلا، أي درويش: للنيل عادات وإني راحل.

ومع ذلك، فجماع الرأي مع النكتة يقول لك إنه ما من سبيل لفصلها البتة عن المناخ السياسي وطبيعة الحكم السائد لدى أي شعب، وما إذا كان حرا أو استبداديا، أو ما إذا كان مستوى معيشة الفرد مرفها أو فقيرا. والى ذلك خلصت سائر الدراسات التي لم تغفل وجود النكتة السياسية أيضا حتى في المجتمعات الحرة، برغم علو وتيرتها في مجتمعات القهر والاستبداد.

ومن عجب أن للشعوب نفسها فلسفتها الخاصة في تأصيل النكتة السياسية، فتجد شعبا مثل الشعب المصري يرجعها بالاستبطان الى الجوع مثلا، ويمكن استدعاء مثل هذا التأصيل في سماعهم بأن أشقاءهم في السودان قد بدأوا أخيرا منذ الثمانينات يخرجون نكاتهم السياسية الخاصة بهم بعد أن كانوا متلقين لها، فلم يذهب التعليق الساخر من المصريين على السودانيين الى الغيرة أو التمجيد بعبقرية مثلا، وإنما خلص وبتلقائية الى القول إنهم أي السودانيين قد جاعوا إذن، ويقول التعليق المصري: «معنى كده جاعوا ، ولكن شاهد الحال وبقراءته مع الحالة السودانية يقول لك إن ربط المصريين لها بالجوع مثلا لم ينطلق من فراغ، فلغة الأرقام حين تتحدث مع أوضاع السودانيين الاقتصادية عامة ومنذ الثمانينات، وبإحصاءات متخصصة ومحايدة تقول لك إن أوضاعهم المعيشية تراجعت بلا جدال. ولكن العامل الأكبر الذي يمكن التعويل عليه مع النكتة السياسية يوشك أن يرجح كفة الاستبداد السياسي على كفة الجوع، مع الاعتراف بوجود رابط بين الاثنين باعتبار أن الاستبداد في معظم تجلياته إنما يولد تخلفا اقتصاديا، ويمكن هنا التوقف مع المصريين مرة أخرى وهم يبدعون نكتة سياسية حول ليبيا في غضون ذهاب فريق للوقوف على «أسلحة الدمار الشامل»، في الجماهيرية بعد إعلانها عن امتلاكها لها، تقول إن الفريق المكلف العثور على «أسلحة الدمار» لم يجد «أسلحة» ولكنه وجد «دمارا».

والشاهد أننا هنا أمام نكتة سياسية يتعدى بها شعب محيطه الى محيط الآخر، بمثال حالتي السودان وليبيا، في حين أن هناك للمصريين آلاف النكات على نظمهم السياسية بلا استثناء، وقد سبق للمصريين أيضا أن خلصوا الى تبديل قول رئيسهم أنور السادات أوائل سنوات حكمه بأنه «ماش» على طريق سلفه عبد الناصر، فقالوا: آه هو «ماش»، بس بـ «الإستيكة»، في إشارة لعزم السادات على إزالة آثار الناصرية.